شعار قسم ميدان

"كاهن سعيد ورجل حزين".. هل ستقدم الفاتيكان على القرار الأخطر في تاريخها؟

church priest
بسبب ممارسات بعض الكهنة الذين لم يتمكنوا من الالتزام بالعزوبية المفروضة من الكنيسة، بدأ المجتمع "العلماني" ينظر بنوع من الازدراء والسخرية لما اعتبره "نفاقا" واضحا من طرف رجال الدين.(شترستوك)

بعد نهاية قداس يوم الأحد، وقف الكاهن "دون ريكاردو شيكوبيلي" لإلقاء كلمة أمام المصلين الذين قدموا طلبا للمغفرة، ثم أتى إعلانه الصريح صادما للحاضرين. هذا الرجل الذي نذر حياته لخدمة الرب، وجد نفسه اليوم مضطرا لإنهاء كل مشاريعه القديمة. أما السبب فهو علاقة حب جمعته بامرأة قلبت حياته وكيانه وبعثرت أوراقه، وقد تحدث الكاهن الإيطالي عن قصة الحب تلك قائلا: "لا أستطيع أن أكون شخصا غير ذلك الشخص الذي كنت عليه، أن أكون مستقيما ومتسقا مع ذاتي، كنت هكذا وسأظل، لكن اليوم أريد أن أقول إن قلبي مُغرَم، وإنني أريد أن أعيش هذا الحب، وأرغب في عيشه دون حذفه من حياتي".

 

جاء هذا الإعلان بعد أن حامت الكثير من الشبهات حول "دون ريكاردو"، إذ شوهد الكاهن الإيطالي حسب صحيفة "كوريير ديلا سيرا" الإيطالية أكثر من مرة مع سيدة تسكن في المنطقة نفسها. وقع الرجل في الحب، وشهدت الجولات التي قام بها رفقة محبوبته على قصة حبهما، فأتت الاستقالة من الكنيسة حلا وحيدا، وقد أكد رئيسه المباشر تفهُّم قراره كونه اتخذه بحرية كاملة، متمنيا له السلام والسكينة في حياته الجديدة. تبدو القصة جميلة نوعا ما، أو آمنة إن اخترنا مصطلحات أدق، لأن قصة انسحاب دون ريكاردو ليست مُعتادة، بل هي استثناء في الحقيقة بين العديد من القصص المشابهة داخل الكنيسة، التي تبدأ بحب وتنتهي بمأساة.

ممنوعون من الحب أو الزواج

"إذا كان لديك زوجة جميلة أو ابنة جميلة، فلا تسمح أبدا بأن يدخل بيتك رجل دين".

جملة شعبية كانت منتشرة في القرون الوسطى

إنه نقاش لا يموت. لماذا لا يتزوج الكهنة الكاثوليك؟ لماذا لا يُسمَح لهم باتخاذ زوجة وأبناء مع الحفاظ على مسارهم في خدمة "الشعب المسيحي"؟ يجب أن تنطلق محاولة الإجابة عن هذا السؤال من سؤال لا يقل أهمية: هل كان منع الكهنة من الزواج موقفَ الكنيسة منذ الأزل؟ الجواب هو "لا". لقد عاش الكهنة قبل قرون حياة عادية سُمِح لهم فيها بالزواج والإنجاب، إذ رحَّبت الكنيسة دون إشكال برجال الدين الذين اختاروا تكوين أُسَر للخدمة في أروقتها، خصوصا أن الأناجيل المختلفة التي كانت بين يديها لم تفرض العزوبية أبدا.

 

رغم عدم وجود نصوص قاطعة، فإن كل شيء تغيَّر في القرن الحادي عشر الميلادي، بداية من عصر البابا "نيقولا الثاني" ثم في عهد البابا "غريغوري السابع". ففي هذه الفترة حاول رجال الدين الدفع بمشروع "الزواج الأبدي المقدس" الذي لا يمكن فك رباطه، وحاول العلماء المسيحيون حينئذ خلق شريحتين واضحتين متمايزتين من البشر، الأولى تضم العوام "العلمانيين" الذين يمكنهم الزواج ويكون زواجهم مُقدسا، والثانية تضم رجال الدين الذين لا يتزوجون ويختلفون في أسلوب حياتهم عن باقي المجتمع، أي إنهم انخلعوا عن المجتمع وذهبوا إلى عالم الكنيسة التي تسيَّدها "البابا"، ومن ثمَّ ظهرت حينها أكثر فأكثر فكرة أن الكهنة "متزوجون بالكنيسة".

 

بمرور الوقت، أضحى زواج رجال الدين إثما كبيرا يَحُول دون خدمتهم للكنيسة، ويُنهي أي تأثير للأسرار المقدسة التي يحملونها، وهو ما أكدته الكنيسة عام 1070م، قبل أن يصدر القرار بحرمانية عيش الكهنة مع أي امرأة على الإطلاق. ولم تنل هذه القرارات بطبيعة الحال دعم جميع الكهنة، حتى وإن أبدت بعض الإيبارشيات بعض الدعم لها. ومن جهتها علمت الكنيسة يقينا أن ما تطلبه من الكهنة ضرب من التعجيز، ولذلك أغمضت أعينها عن الكثير من الممارسات التي تحدَّت تعاليمها، وخاصة أن 20% من زائري دور الدعارة آنذاك كانوا من رجال الدين. في الوقت نفسه، وبسبب ممارسات بعض الكهنة الذين لم يتمكَّنوا من الالتزام بالعزوبية المفروضة من الكنيسة، بدأ المجتمع "العلماني" (ونقصد هنا بالعلماني غير المرتبط بالكنيسة) ينظر بنوع من الازدراء والسخرية إلى ما اعتبره "نفاقا" واضحا من طرف رجال الدين.

 

مرَّت السنوات وبقي ملف العلاقات الجنسية للكهنة من المواضيع المُحرَّمة التي قلما فُتِحَت للنقاش العلني. ولكن مع مرور الوقت، أصبح من غير الممكن الحفاظ على سرية هذا الأمر، لا سيما مع ما سبَّبه من نزيف رجال الدين الذي عانت منه الكنيسة الكاثوليكية لعقود طويلة حين تركها الكهنة من أجل الزواج والانتقال لعيش حياة علمانية. ومع بداية سبعينيات القرن العشرين، أضحت ظاهرة ترك الخدمة الكنسية أكثر استفحالا في صفوف الكهنة، وزادت في العقود الخمسة التالية، أما أسباب النزيف فهي فكرية واجتماعية و"جنسية" بحسب العديد من الدراسات.

 

دخل كهنة وراهبات عديدون في علاقات غرامية مع زملاء لهم أو مع أشخاص خارج الكنيسة، ويجد هؤلاء أنفسهم أمام خيار صعب بعد دخول تلك العلاقات، فيكون الحل إما الابتعاد عن "العشيق" لمواصلة الخدمة في الكنيسة والتعامل مع الأمر على أنه نزوة عابرة، وإما المُضي قُدما في العلاقة ومواجهة الكنيسة والعائلة على حدٍّ سواء، ومن ثمَّ ترك حياتهم السابقة لصالح حياة جديدة علمانية، لا يتزوجون فيها بالكنيسة، بل برجال ونساء من لحم ودم. هذا الخروج عن تعاليم الكنيسة وإن شكَّل تحديا مهما للبابا ومَن حوله، فإن خطره الأكبر كان على الكنيسة نفسها، وبالأخص إذا ما علمنا أن كاهنا من كل اثنين متورط في علاقة (غير شرعية من منظور الكنيسة)، ما يعني توغل المشكلة في صفوف الكنيسة وتهديد ترسانتها البشرية التي تخدم رسالتها. وقد دفعت هذه الضغوط بالكنيسة إلى التعامل بحزم مع الأمر، فلم يكن ردها دائما سهلا مع الراغبين في تركها، بل أتى قاسيا في أحيان كثيرة، وتعمَّد إغلاق جميع الأبواب التي أمكن الخروج منها إلى الحياة العلمانية دون خسائر.

 

رحلة التيه

يجد تاركو الكنيسة صعوبة كبيرة في أن يعيشوا الحياة العادية، حيث يطغى عليهم الشعور بالتخلي عنهم. (شترستوك)
يجد تاركو الكنيسة صعوبة كبيرة في أن يعيشوا الحياة العادية، حيث يطغى عليهم الشعور بالتخلي عنهم. (شترستوك)

تبدأ القصة دائما بخطوة ينذر فيها الكاهن حياته لخدمة "الرب"، ثم بعد سنوات يكتشف الشخص أن الحياة داخل أروقة الكنيسة لم تكن مناسبة له، أو أنه ربما لم يكن بتلك القوة التي تصوَّرها عن نفسه، ولعله في آخر المطاف بحث عن حياة عادية بالتزامات دينية بسيطة. بيد أن هذا التغيير لا يحدث بين عشية وضحاها، ولا يَتِم بلا مرارة، إذ إن الكاهن الذي يقرر ترك حياته بطقوسها الكنسية اليومية المليئة بالمهام يعيش تغييرا جذريا يؤثر عليه روحيا واجتماعيا واقتصاديا.

 

هذا ما حدث بالضبط مع الراهب "مارك فاسييه"، الذي تناقلت العديد من وسائل الإعلام الفرنسية قصته وروتها بتفاصيلها. وقد بدأت قصة مارك، الذي خدم في الكنيسة لعقد ونصف، عام 2018 عن طريق قُبلة تلقاها من "إنغريد"، وهي متدينة مسيحية كانت تأتي لكنيسته، والتقاها عام 2016 حينما أتت لتعميد ابنها الخامس من زواجها السابق. وجاء لقاء مارك بإنغريد ليضعه في مواجهة مع العديد من الأفكار التي كان يدافع عنها، ومن بينها فكرة فرض العزوبية على الكهنة، وقد عرَّف مارك نفسه سابقا على أنه "كاهن سعيد، ورجل حزين"، لكن القُبلة غيَّرت قِبلته تماما، وجعلته ينتقل من "الصداقة" مع إنغريد إلى "الحب"، حيث اتفق الطرفان على السير قُدما تجاه مستقبل مشترك، لكنه مستقبل سرعان ما غلبت عليه الضبابية.

 

مع حلول عام 2020، أضحت العلاقة بين الكاهن ومحبوبته صريحة أكثر من ذي قبل، خصوصا بعد أن توصل مسؤول مارك المباشر في الكنيسة برسالة من مُرسل مجهول رَوَت تفاصيل العلاقة باستفاضة. وقد سارع "مارك" في التعبير بكل شفافية عن رغبته في ترك الخدمة بالكنيسة بسبب علاقة حب تربطه بإحدى النساء، ولكن في هذه المرة لم يتقبل الأسقف هذا الخبر بسِعة صدر، ورفض طلب الكاهن بالإبقاء على وظيفته مُعلِّما في المعهد الكاثوليكي بالعاصمة الفرنسية باريس، حيث درَّس مادة علم اللاهوت والأخلاق، ومن ثمَّ طُرِد مارك في الأخير في مايو/أيار 2021.

 

وجد مارك نفسه في مواجهة حياة صعبة بعد أن رفضت الكنيسة مساعدته للحصول على الدعم، مثل الحق في تعويض عن البطالة أو الحق في تمويل يتيح له فرصة جديدة في سوق العمل، ويقول مارك: "ذهبت إلى الكنيسة للحديث عن إمكانية تلقي تكوين مهني يساعدني على الانطلاق في المجال العملي، لكنني عُدت بخُفَّيْ حُنين. كنت أتمنى أن يحدث هذا الانتقال بسلاسة أكبر. لقد ظهر الأمر وكأنه طرد تعسُّفي. لا يتم التخلي عنا وطردنا نحو عالم مجهول فحسب، بل يُتعامَل معنا بوصفنا مُذنبين". ورغم الخلافات الكبيرة فإن الأبرشية وافقت في النهاية على منح راتب قيمته ألف يورو (أقل من الحد الأدنى للأجور بنحو 200 يورو)، فيما واصل المعهد الكاثوليكي منح مُدرِّسه السابق 800 يورو دون التعليق على توقيفه من عمله. في غضون ذلك، تؤكد قيادات الكنيسة أن الاحترام هو الطريقة التي يُتعامَل بها مع اختيارات الكهنة، حتى وإن كان اختيارهم هو إنهاء مسيرتهم المهنية/الروحية.

 

يكابد الكهنة خلال هذه الفترة الانتقالية مشقة كبيرة، ذلك لأن ما ربطهم بالكنيسة يوما ما لم يكن مجرد وظيفة كما هو الحال في جميع شركات العالم، بل حياة كاملة وعلاقات إنسانية عميقة ووطيدة مع باقي زملائهم. ولذا، يجد تاركو الكنيسة صعوبة كبيرة في أن يعيشوا الحياة العادية، حيث يطغى الشعور بالتخلي عنهم، بحسب ما نقلته قناة "بي إف إم" الفرنسية في تقرير لها حول الموضوع عن كاهن سابق دفعته الدنيا بعد ترك الكنيسة لأن يكون سائق حافلة بحثا عن كسب قوت يومه. لا يواجه الكهنة تخلي الكنيسة عنهم فحسب، بل تتحوَّل علاقاتهم الأخوية السابقة بزملائهم إلى عداء واضح، إذ يُوصَف الكهنة بالضالين الذين تخلوا عن المسيح، وأن الجحيم مصير النساء اللائي يقاسمنهم حياتهم العلمانية بعد الكنيسة.

 

إلى المثلية

لعل الكنيسة تفضل أحيانا أن يدخل الكهنة في علاقات مثلية على أن يتورطوا في علاقات مع النساء، لأن العلاقات المثلية لا تنتج أطفالا.
لعل الكنيسة تفضل أحيانا أن يدخل الكهنة في علاقات مثلية على أن يتورطوا في علاقات مع النساء، لأن العلاقات المثلية لا تنتج أطفالا. (شترستوك)

"سمعت بعض القساوسة يقولون إنه يمكن منح البركة لسيارات الإطفاء والأحصنة وللحيوانات، ماذا يمكنني أن أفعل إذن؟ ألا أمنح البركة لشخص مثلي في علاقته بشريكه؟ هذا هو الذنب القاتل".

بهذه الكلمات شرح الكاهن الألماني "فولفغانغ شوماخار" تحوُّل عقيدته من الكاثوليكية إلى البروتستانتية بعد خدمة استمرت 17 عاما، والسبب هو رغبته في إعلان ميوله الجنسية "المثلية"، وتشبُّثه بـ"الزواج" رسميا من الرجل الذي اختاره شريكا لحياته، وهو باحث في العلوم الدينية والعقدية أيضا. وتُشكِّل المثلية تحديا كبيرا من أبرز التحديات التي تعاني منها الكنائس في العالم، وبالأخص بعد إصرار عدد من رجال الدين المسيحيين على إعلان ميولهم الجنسية في ظل الدعم الكبير للتوجهات المثلية عموما في معظم البلدان الغربية.

 

في السياق نفسه، نشرت صحيفة "لاكروا" (الصليب) الفرنسية رسالة كتبها كاهن "مثلي" يحكي فيها تجربته الجنسية والروحية دون الكشف عن هويته، وقال الكاهن إنه طيلة السنوات السبع التي تلت تعيينه كاهنا، توصَّل إلى الحقيقة الواضحة التي انجلت له بعد نقاشات مع أحد رفاقه، وهي أن ميوله الجنسية "مثلية" قولا واحدا. وقد بدأ الكاهن المثلي بعد ذلك رحلة نفسية مع ميوله تلك، في ظل رفضها داخل أروقة الكنيسة. وبعد طول نقاش داخلي، قرر الكاهن "التعايش مع مثليته لا محاربتها"، وذلك بأن يعيش في "ثوب المسيحي الآسن المُذنب، الذي لا يرى نفسه أفضل من باقي الرعية، ما يُمكِّنه من فهم أعمق للأشخاص المجروحين والمنبوذين"، على حد وصفه.

 

تطرَّق الكاتب الفرنسي "فريديك مارتل" لمشكلة المثلية داخل الكنيسة الكاثوليكية في كتابه المثير للجدل "Sodoma" (أي اللواط)، ويتطرق فيه للحياة المزدوجة التي يعيشها بعض رجال الدين بين واجباتهم الدينية وتوجهاتهم الجنسية. وقد بدأ اهتمام الكاتب بموضوع المثلية الجنسية في الكنيسة بعد أن علم أن "الأب لويس"، الكاهن المُقرَّب منه خلال فترة طفولته، كان مثليا، وتوفي بسبب معاناته من فيروس فقدان المناعة المكتسبة (الإيدز)، حيث أمضى أواخر أيامه على فراش الموت منبوذا من الكنيسة، رغم سهر مجموعة من الراهبات على خدمته. وفي صفحات الكتاب، ناقش مارتل نتائج تحقيقات قام بها في أكثر من 30 دولة، والتقى خلالها بعدد كبير من الشخصيات الدينية النشطة داخل وخارج الفاتيكان، التي سلطت الضوء على "النفاق" الذي تتعامل به الكنيسة مع المثلية الجنسية، إذ إنها تحاربها في الوقت الذي تتغاضى فيه عن انتشارها بين رجال الدين.

الكتاب المثير للجدل "Sodoma" (أي اللواط) للكاتب الفرنسي "فريديك مارتل" يناقش مشكلة المثلية داخل الكنيسة الكاثوليكية
الكتاب المثير للجدل "Sodoma" (أي اللواط) للكاتب الفرنسي "فريديك مارتل" يناقش مشكلة المثلية داخل الكنيسة الكاثوليكية. (مواقع التواصل)

اكتسبت المثلية أرضية واسعة في أوروبا، وهو ما انعكس على الطرح الديني للكنائس نفسها. ففي ألمانيا على سبيل المثل، قرر الكهنة إطلاق حملة بعنوان "الحب ينتصر"، وهي حملة تبنَّتها 110 من الكنائس لمنح البركة وتزويج المثليين، إذ اعتبر المشاركون أن الحملة "رسالة مباشرة لروما والفاتيكان مفادها أن الحب وحده قادر على هداية الناس"، بحسب زعمهم. وأتت هذه الخطوة بعد أن سبقتها أخرى قام أثناءها 2600 كاهن وعدد من علماء اللاهوت وبعض من العلمانيين بتوقيع عريضة تدين إدانة الفاتيكان للمثلية الجنسية. وفي السياق نفسه، نشر 50 كاهنا إيطاليا رسالة تدين "رهاب المثلية" الذي تعاني منه الكنيسة الكاثوليكية، داعين إياها إلى إعادة النظر في الأمر، وهو ما تلقفه عدد من الجرائد اليسارية التي تحمل على عاتقها "النضال" من أجل التطبيع مع المثلية.

 

رغم أن الموقف المعلن للكنيسة الكاثوليكية هو رفض هذه السلوكات للكهنة، فإن عددا من التقارير يفيد أن البابا وصفوة القوم من المسؤولين الكاثوليك يغمضون أعينهم عادة عن هذه الممارسات، طوعا أو كرها، بل لعل الكنيسة تُفضِّل أحيانا أن يدخل الكهنة في علاقات مثلية على أن يتورطوا في علاقات مع النساء. ورغم أن ذلك يبدو لأول وهلة منافيا للمنطق، فإنه تفضيل له سبب بديهي، وهو أن العلاقات المثلية لا تُنتج أطفالا.

 

أطفال الصمت

"بعد طول انتظار، اعترف أبي بوجودي، اعترف بأنني ابنته، لقد ذكر ذلك في وصيته بعد موته".

سيدة من أبناء الكهنة

أضحى ملف "أطفال الصمت" أكبر من أن يخفيه السكوت. ففي فرنسا وحدها بلغ عدد أبناء الكهنة الذين تم التعرُّف عليهم 4000 شخص.
أضحى ملف "أطفال الصمت" أكبر من أن يخفيه السكوت. ففي فرنسا وحدها بلغ عدد أبناء الكهنة الذين تم التعرُّف عليهم 4000 شخص. (شترستوك)

وإذا كان هناك بعض الكهنة يعلنون علاقاتهم الغرامية مع النساء، ويترك بعض هؤلاء الحياة الكنسية مُتَّبِعا قلبه وهواه، فإن عددا من الكهنة يدخلون في "علاقات عابرة"، تنتهي في بعض الأحيان بوجود أبناء. وقد عملت الكنيسة على إخفاء هذا الأمر، وبذلت جهودا مضاعفة على وجه الخصوص مع الكهنة الذين يبدون ندما على ما صدر منهم، ويتشبثون بمناصبهم. وتدخل السلطات الدينية في مفاوضات مباشرة مع أُسَر هؤلاء، إذ تقترح في بعض الأحيان على الأمهات التكفُّل ماديا بالطفل الذي سيعيش فعليا بدون أب. وفي حالات أخرى، يُرسَل الأطفال إلى أُسَر أخرى تتبناهم وتربيهم، فمنهم مَن يكتشف الحقيقة، ومنهم مَن يعيش دون أن يدرك أن أبويه الحقيقيَّيْن ليسا مَن سهرا على تربيته طيلة هذه السنين.

 

مع مرور الزمن، أضحى ملف "أطفال الصمت" أكبر من أن يخفيه السكوت. ففي فرنسا وحدها بلغ عدد أبناء الكهنة الذين تم التعرُّف عليهم 4000 شخص. وفي ألمانيا بلغ عددهم 3000، فيما تشير بعض الإحصائيات إلى أن العدد على مستوى العالم يتجاوز 50 ألفا. ولذلك استقبلت الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا جمعية "أطفال الصمت – أبناء الكهنة" في يونيو/حزيران 2019 من أجل فتح الملف والحديث عن النقاط العالقة فيه، ومنها فتح أرشيف الآباء المتوفين للأبناء حتى يتمكَّنوا من التعرف عن قُرب على آبائهم البيولوجيين. ويُعَدُّ الاعتراف بوجود هؤلاء الأبناء أهم طلب تقدمت به الجمعية بعد أن أمضت الكنيسة سنوات طويلة تنكر هذا الأمر. وقد نقلت وسائل إعلام فرنسية عن بعض أعضاء الجمعية ممن حضروا الاجتماع أن مسؤولي الكنيسة صُدِموا من قصصهم، إذ لم يكونوا مُلمِّين بكل التفاصيل.

 

أتت هذه الخطوة بعد أشهر قليلة من إعلان الفاتيكان عن توجُّه جديد شرحه الكاردينال "بنيامين ستيلا" في حوار له مع موقع "فاتيكان نيوز"، يتمثل في دفع الكهنة "الآباء" إلى تحمل مسؤولياتهم تجاه أبنائهم والتركيز على توفير حاجياتهم، ما يعني تركهم المنصب الديني، وهو ما لا يتعارض أصلا مع الوضع القائم، إذ إن نسبة كبيرة من طلبات الإعفاء من المنصب تأتي أصلا من كهنة وجدوا أنفسهم مسؤولين عن أسر مكوَّنة حديثا.

 

بعد قرون طويلة من فرض العزوبية الإجبارية إذن، بدأت المؤشرات تُفصح عن تغيير نسبي في موقف الكنيسة بعد توالي النقاشات العامة عن أبناء الصمت تارة، وانتشار المثلية تارة، وفضائح التحرش بالأطفال والنساء تارة، وهو ما أشار إليه بابا الفاتيكان الذي وصف حظر الزواج بالمؤقت، مؤكدا أنه لا تعارض بين زواج الكاهن وخدمته. هذا التصريح قد يفتح أبواب الأمل للإصلاحيين الذين رأوا في جلوس البابا فرانسيس على كرسي البابوية مؤشرا على التغيير والعصرنة اللذين طال انتظارهما في كواليس الفاتيكان.

المصدر : الجزيرة