شعار قسم ميدان

الشيخ الشعراوي والشيخ كِشْك.. لماذا يُغرم بهما المصريون؟

الشيخ كشك والشيخ الشعراوي
الشيخ كشك والشيخ الشعراوي (الجزيرة)

في سبعينيات القرن الماضي، هيمن شيخان على ساحة الخطاب الديني في مصر، فأسَرَا القلوب ووجَّها روحانيات المجتمع، وتَرَكا بصمة ما زالت حاضرة في وجدان المصريين إلى اليوم. وبلغت شعبية الرجلين عنان السماء في أعقاب هزيمة التجربة الناصرية، حيث مقت كلاهما نتائج تجربة الرئيس جمال عبد الناصر، في حين مَثَّل خطابهما ظاهرة جديدة في القرن العشرين بعد عقود من غياب رجال الدين المؤثرين في المجتمع. وقد انتمى كلاهما إلى قُرى ريفية وتعلَّم الإسلام في الأزهر وتميَّز بخفة ظِل وقدرة استثنائية على الحكي، وفي المقابل، اتُّهِم كلا الرجلين من خصومها بنشر البذور الأولى "للرجعية" في المجتمع المصري.

 

من جانبه، سلك الرجل الأول مسلك ما يُسمَّى بـ"الإصلاح من الداخل"، ومن ثمَّ تمتَّع بعلاقة وطيدة مع الدولة المصرية، وتحوَّل بعد وفاته إلى رمز "مقدس" في نظر قطاع واسع من المصريين، حتى إن بعض الناس يتباركون بصورته في المحلات والبيوت وعلى زجاج السيارات والشاحنات، كيف لا وقد تربوا على صوته الدافئ الذي انطلق على مدار عقود على شاشات التلفزيون المصري الرسمي. أما الثاني فاتخذ منهجا لم يَحِد عنه في الهجوم على الأنظمة السياسية المتعاقبة، وما زال ذكر اسمه وحده يثير القلق السياسي بسبب مواقفه الثورية، وقد حاز الرجل شعبية كبيرة في حياته، ثم تحوَّل بعد موته ساجدا إلى ما يُشبه الوليّ في نظر كثيرين. هذان الرجلان هما "محمد متولي الشعراوي" و"عبد الحميد كشك".

 

في الوقت الذي تتوالى فيه الحملات الناقدة لإرث الرجلين من قِبَل نُقَّادهما، خاصة الشيخ الشعراوي الذي بات موضوعا لحديث إعلامي لا يكاد يتوقف حتى يتجدد بسبب شعبيته المستمرة والطاغية، التي تُعزى جزئيا لإحياء المنابر الرسمية نفسها لخطابه الديني، وما أتاحته علاقته الجيدة بالنظام من الظهور عبر شاشة التلفاز وليس الكاسيت المسموع فحسب، الوسيلة الأكثر تمرُّدا في ذلك الوقت. بيد أن هنالك صورة أكثر تعقيدا تتكشف لنا حين ننظر بعُمق، ليس في جوانب خطابهما وطبيعة تأثيرهما فحسب، وإنما أيضا في السياق الاجتماعي والتاريخي الأوسع لتلك الفترة التي نَتَج فيها الخطابان، بالتزامن مع مرحلة فاصلة من مسيرة تطوُّر الخطاب الديني في مصر بعد انتهاء التجربة الناصرية، وذلك رغم بعض الاختلافات التي تبدو عميقة بين الرجلين.

 

على هامش "النكسة"

عبد الناصر
سيطر عبد الناصر على المؤسسة الدينية بشكل شبه تام، فأمَّم الأوقاف التابعة للأزهر، وجعل تعيين شيخ الأزهر من اختصاصات رئيس الجمهورية. (مواقع التواصل)

"أول شيء أطلبه أنا وحكومتي أن يكون الهدوء سائدا في الأزهر الشريف والشغب بعيدا عنه، فلا يشتغل علماؤه وطلبته إلا بتلقي العلوم الدينية".

إسماعيل باشا، خديوي مصر (1863-1879)

على عكس ما يتصور البعض ربما، فإن الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر لم يُهمل الإسلام بالكامل، فقد ترجم النظام الناصري المُصحَف إلى لغات كثيرة، وجعل الدين مادة إجبارية في التعليم، وضاعف عدد المساجد، وقامت إدارته بإعادة نشر كتب التراث، كما أنشأ إذاعة "القرآن الكريم"، وأصدرت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في عهده موسوعة عبد الناصر في الفقه. ورغم ما يقوله معارضوه من أن تلك المحاولات أتت لتعزيز هيمنة الدولة على الخطاب الديني، وليس بوازع الاهتمام بالدين لذاته، فإن الرجل في الأخير لم يسلك نهج العلمانية الصريحة الذي سلكه "الحبيب بورقيبة" في تونس بالفكاك تماما من الثقافة الإسلامية. على سبيل المثال، حين أعلن عبد الناصر "الجهاد" ضد العدوان الثلاثي، فإنه فعل ذلك من على منبر الجامع الأزهر على غرار أسلافه من حكام مصر في عهود الدول الإسلامية السابقة على العصر الحديث، كما استعادت السينما في عهده قصص قادة المعارك الإسلامية الذين نسيهم الناس، مثل صلاح الدين الأيوبي وسيف الدين قطز.

 

في قرارة نفسه، رأى عبد الناصر أن دولة مثل مصر تحتاج إلى قبضة حديدية للنهوض بها، ومن ثم أراد ترويج خطاب إسلامي يخدم توجهاته في الدعوة إلى الاشتراكية والمساواة والترويج لمكافحة الصهيونية ودعم خطواته السياسية المختلفة. ولذا، سيطر عبد الناصر على المؤسسة الدينية بشكل شبه تام، فأمَّم الأوقاف التابعة للأزهر، وجعل تعيين شيخ الأزهر من اختصاصات رئيس الجمهورية، وأصبح العاملون في الأزهر موظفين في الدولة، كما أدمج المحاكم الشرعية داخل النظام القضائي العام في الدولة المصرية.

 

لم يتجاهل عبد الناصر المؤسسة الإسلامية الرسمية إذن، بل قلَّم أظافرها وجعلها أداة من أدوات الدولة، وقد تابع الشعراوي عملية السيطرة الناصرية على المؤسسة الدينية بحنق، ووفق بعض الروايات -التي تبنَّاها مسلسل أنتجته الدولة بنفسها عن قصة حياته عام 2003- حاول الشيخ أن يلعب دورا مُعارِضا لخطوات عبد الناصر في تحجيم وتأميم المؤسسة الدينية حين كان مديرا لمكتب شيخ الأزهر. على الجانب المقابل، ولَّدت خطوات الدولة الناصرية غضبا لا حدود له في صدر الشيخ عبد الحميد كشك.

في ستينيات القرن الماضي، كان رجال ثلاثة استثنائيون، عبد الناصر والشعراوي وكِشك، يشقون طريقهم إلى نجاح جماهيري فريد من نوعه كلٌّ على طريقته، فمن ناحية، كانت شعبية عبد الناصر تتسع يوما بعد يوم، لا سيما بعد النجاح النسبي لخطته الخمسية الاقتصادية الأولى (1956-1961) وآثارها الإيجابية الملموسة عند شرائح واسعة من الطبقات الوسطى المصرية، إذ ارتفع مستوى الدخل الحقيقي للفرد بنسبة 3%، ونما الناتج الصناعي بمعدل 8.5% سنويا، فضلا عن أن عبد الناصر كان قد خرج لتوِّه مِما عدَّه كثيرون انتصارا سياسيا عام 1956 بعد إحباط الأهداف السياسية للعدوان الثلاثي البريطاني-الفرنسي-الإسرائيلي.

 

في الوقت ذاته، ذاع صيت الشيخ كِشك بعد تعيينه إماما وخطيبا لمسجد "عين الحياة" بحدائق القبة في القاهرة عام 1964، حتى إن روَّاد المسجد تناسوا اسمه الأصلي مع الوقت وصاروا يسمُّونه جامع الشيخ كشك. وقد بدأ الشيخ في التعبير عن بعض آرائه مثل رأيه بأن الاشتراكية ليست هي الإسلام، فضلا عن رفضه الإدلاء بالفتاوى التي أرادتها الدولة -وفق روايته- مثل تسويغ إعدام سيد قطب، في وقت لم يكن أحد ليجرؤ فيه على الحديث ولو من بعيد بشيء مخالف لسياسات النظام الناصري، ما أدى في الأخير لاعتقاله عام 1966 بعد زواجه بعام واحد. في غضون ذلك الوقت، انطلق الشعراوي أيضا بخطوات أبطأ، لكن نجاحه المتأخر لعله كان أكثر كثافة واستدامة واتساعا، ولن يسع نجاحه حياته نفسها، بل سيتضاعف بعد موته. وقد تولَّى الشعراوي منصب مدير الدعوة الإسلامية بوزارة الأوقاف المصرية عام 1961، ثم أصبح مفتشا للعلوم العربية عام 1962، وبعد عامين عُيِّن مديرا لمكتب شيخ الأزهر، ثم ترأس بعثة التعريب الأزهرية إلى الجزائر سنة 1966.

 

في خضم شعبيته، كان النظام الناصري على موعد مع هزيمة عسكرية مؤلمة وتصدُّع لمشروعه السياسي بشكل سيُغيِّر وجه مصر والعالم العربي كله، وهي هزيمة سَجَد على إثرها الشيخ الشعراوي في الجزائر شكرا لله أن النظام البوليسي الذي ارتمى في أحضان الشيوعية انهزم، وإلا كانت نجاحاته لتصير فتنة كبرى للمسلمين في دينهم، على حد قوله. في العموم، شارفت حقبة الستينيات على الانتهاء بكل ما عرفته من نمو الاقتصاد والطبقة الوسطى، والتوسُّع البيروقراطي والصناعي، والقبضة الأمنية لزُوَّار الفجر كما عُرِفوا آنذاك لطرقهم أبواب المعتقلين قبل طلوع الشمس، وقد انتهت بوطن منكسر بهزيمة مُذِلَّة وأحلام مُحطَّمة وحقائق مُفجِعة أخذت تنكشف يوما بعد يوم.

 

في مطلع السبعينيات، أتى الانقلاب التدريجي على التجربة الناصرية من داخلها بعد موت الزعيم، إذ تولَّى الرئيس محمد أنور السادات مقاليد الحكم وانتصر على خصومه الناصريين داخل الدولة، ومن ثمَّ بدأ عهد جديد اختفى فيه زوار الفجر إلى حدٍّ بعيد، ولكن اتسعت فيه رقعة الفقر والديون. حارب الرئيس الجديد الاشتراكية، وقدَّم نفسه بوصفه "الرئيس المؤمن"، ومَنَح حرية الحركة لوقت طويل لرجال الدين وللحركات السياسية الإسلامية من أجل تقليص النفوذ الناصري في الشارع المصري. وفي الوقت نفسه وقّع السادات اتفاق السلام مع إسرائيل، وأعلن ألا حروب بعد اليوم. بالتزامن مع ذلك، رويدا رويدا، تصدَّر مشهد الخطاب الديني في مصر كلٌّ من الشعراوي وكِشك.

الشيخ الشعراوي و الرئيس المصري السابق محمد أنور السادات
الشيخ الشعراوي والرئيس المصري السابق محمد أنور السادات. (مواقع التواصل)

كان الشعراوي يواصل خطواته الحذرة التي بدأها خلال العهد الناصري، ما جنَّبه بطش الدولة، بل وفتح له أبواب تلفازها الرسمي، في حين انطلق صوت الشيخ كشك عبر اختراع جديد آنذاك هو شريط الكاسيت، الذي منح فرصة جديدة للمُتمرِّدين على قواعد الأنظمة بالنظر إلى صعوبة السيطرة على إنتاجه من قِبَل الدولة. وقد ارتبط كلا الصوتين في الآذان بكلمة "الله" التي كثيرا ما ردَّدها مستمعوهما بعد كل جملة، انتشاء ببراعتهما في اللغة والتأويل.

 

على مدار النصف الثاني من السبعينيات، وقف الشعب المصري أمام آثار الهزيمة التي تسبَّبت فيها مغامرات رئيس حكم بواسطة دولة بوليسية، ولم يكد يُفق حتى وجد نفسه مع رئيس آخر مغرم بالمغامرات الاقتصادية القائمة على الاستدانة والانفتاح، وقد وجد الشعب في صوتَيْ الشعراوي وكشك المتناقضين في أكثر من ملف ونسًا كافيًا. فأحدهما كان يصرخ معبرا عن همومهم وما حل بهم في وجه الحاكم، والآخر كان يحنو على قلوبهم بحديثه الصوفي العذب ويربطهم بالسماء بعد أن ضاقت بهم الأرض.

 

أعداء الفن والجمال والمرأة؟

مع تفاقم الأزمات الاقتصادية في مصر، استشرت ظاهرة هجرة العمالة المصرية إلى دول الخليج، وهي ظاهرة تناولها الكثيرون من زوايا مختلفة، لكن الشيخ كشك قرر أن يتناولها من زاوية غريبة على المجتمع المصري في السبعينيات. فقد تناول احتياجات المرأة الجنسية والعاطفية، إذ أفتى الشيخ، الذي تزوَّج من امرأة واحدة ولم يضرب أولاده قط حسب شهادتهم، بأن مَن لا يستطع أن يأخذ زوجته معه فلا يسافر ويتركها وحيدة، فكيف لك أن تتركها بلا حبيب: "ماتسِبش مراتك، خليك معانا هنا، وكُل فول وطعمية مش مشكلة، بطَّل طمع.. الست دي بشر". بل وفي إحدى خطبه، وأثناء تقريعه للأزواج الذين يصفعون زوجاتهم، حكى لهم أن الرسول قال لرجل صفع عَبْده إنه "لا كفَّارة لذلك إلا عِتْقه"، فكيف لكم بزوجاتكم. وتكمُن أهمية حديث كشك في توقيته، فنحن نتحدث عن عصر اعتاد فيه الناس مشاهد صفع البطل لحبيبته في الأفلام المصرية، وقُدِّمت تلك المشاهد باعتبارها جزءا من تركيبة الحب والذكورة.

 

رغم أن خطاب كشك حول المرأة لم يبرح تماما المفاهيم الدينية التقليدية المتمحورة حول الطاعة والصلاح، فإنه كسر ذلك الخطاب التقليدي بقدرته على فهم احتياجات المرأة وتفهم مشاعرها، في وقت ندر فيه أن يحاول رجل فهم مظالم المرأة. وربما اكتسب الشيخ هذه القدرة من تجربة حياته الأليمة التي بدأها بفقدان بصره الكامل وهو ابن 17 عاما بعد أن ذاق حلاوة البصر، هي تجربة امتزجت داخلها حساسية مفرطة تجاه الظلم مع طاقة روحانية وإيمانية هائلة ظهرت بجلاء في خُطبه وآرائه. كان كشك إذن ابن تجربته الفريدة التي أفرزت خطابه القائم على المفارقات وتثوير المستضعفين من حوله، باستخدام كلمات رقيقة متكررة عن "الإنسانية والظلم".

"كان في نفسي فراغ رهيب يحتاج إلى مَن يضع اللمسات الصادقة. كثيرا ما كنت أعاني من فقد الصديق الصدوق".

الشيخ كشك في مذكراته "قصة أيامي"

على الجانب الآخر، امتلك الشيخ محمد متولي الشعراوي أيضا آراءه "الثورية" الخاصة في قضايا الجنس والمرأة، فكان من أول مَن قَبِل عمليات التحوُّل الجنسي في مصر للضرورات التي أقرَّها أهل الاختصاص من الأطباء، حتى قبل أن تبدأ القضية بالظهور في مصر. بل وحاول الشيخ أن يستخرج خواطر إيمانية من هذا الأمر، فرأى أن هذا هو السبب الذي جعل الله من أجله ثديا للرجل، ففي حالة مثل تلك لو لم يكن للمتحول الذي يعاني من الاضطرابات ثدي لما تمكَّن من التحوُّل إلى امرأة على حد قوله. والنقطة هنا ليست في نوع الحجاج الذي يقدمه الشيخ وجدواه المنطقية من عدمها، وإنما قبوله لفكرة التحول الجنسي لضرورة طبية، رغم أنها مسألة تم التعامل معها بسخرية لسنوات عديدة في المجتمع المصري.

 

وحتى بعض آراء الشعراوي التي يعتبرها خصومه مناهضة للمرأة ربما يتبين لنا أن حقيقتها خلاف ذلك إذا تأملناها بقدر من الدقة. على سبيل المثال، يتداول البعض هذه الأيام مقطعا للشعراوي قال فيه إن "المرأة مصرف لشهوة الرجل" باعتباره دليلا على احتقار الشعراوي للمرأة. غير أن سياق التصريح يكشف أنه وجَّه كلامه للرجل الذي قال إنه كره زوجته لأن شكلها لا يعجبه ولأنها لا تثير غرائزه، فأتى رد الشعراوي بأن المرأة ليست وظيفتها من الأساس أن تثير غرائزك وإنما "أن يصرف الرجل غريزته معها إذا ثارت بيولوجيًّا بطبيعتها"، ومن ثم تحوَّل المقطع الذي يدعم فيه الرجل المرأة التي تفتقر للجمال بعد اقتطاعه من سياقه إلى مقطع مفاده أن الشعراوي يحتقر المرأة.

إن آراء مثل تلك حول ضرورة ألا يسافر الزوج بعيدا عن زوجته للشيخ كشك، أو انفتاح الشعراوي على التحوُّل الجنسي لأسباب طبية، أو رفضه أن تكون وظيفة المرأة إثارة غريزة زوجها، تجعلنا نسأل هل فعلا يمكن أن نُلخِّص مواقف الرجلين في أنهما نشرا معاداة الفنون والمرأة في المجتمع كما يدَّعي خصومهما، أم أن الأمر أكثر تركيبا من ذلك؟

 

لقد كان نقد النوع السائد من الفن الذي ترعاه الدولة في تلك الفترة جزءا مؤسسا في خطاب الشيخَيْن، فقد خصَّص كشك أجزاء كبيرة من خطبه للسخرية من مطربي عصره وأغنياتهم الشهيرة، وعلى رأس مَن سلقهم بحاد لسانه عبد الحليم حافظ وأم كلثوم، أما الشعراوي فقال صراحة إن الفنانين الذين ينشرون الخلاعة يأكلون من حرام. ومع ذلك، يبدو أن علاقة الرجليْن بالفن أكثر تعقيدا مما نظن من تلك التصريحات إن عرَّفنا الفن بمعناه الواسع، إذ إنهما نالا كل هذا الإعجاب من الجمهور لإتقانهما فن الحكي والكوميديا في نهاية المطاف.

 

يمكننا فهم هذه العلاقة بشكل أفضل بالنظر إلى طبيعة الفن السائد آنذاك. فأثناء سيطرة النظام الناصري على السينما، لا يكاد يذكر المرء فيلما واحدا قدَّم شخصا متدينا أو ناقش مشكلاته أو أفكاره بجدية، بل وأحيانا ما جرى تسويق عدد من الأفلام للجمهور بذكر عدد القبلات فيها، وكان شرب الخمر يُقدَّم باعتباره أمرا طبيعيا من العادات المصرية، ولم يظهر الشيوخ عادة أو المتحدثون باللغة العربية الفصحى إلا في صيغة كوميدية. ولذا كان منطقيا أن يشعر الرجلان ومعهما قطاع من المصريين أن هذه السينما لا تُمثِّلهم.

وقد أوضح الشيخ كشك هذه المفارقة في إحدى خطبه حين قال: "في هذا العام الذي عُلِّقَت فيه الرقاب التي كل ذنبها أنها قالت لا إله إلا الله (يقصد إعدام قُطب عام 1965)، كان الموسيقار عبد الوهاب يقيم حفلا في سلاح الفرسان يغني فيه أغنية تسلم يا غالي". من جهة أخرى، تكشف لنا حكاية غريبة للموسيقار الراحل عمار الشريعي أنه تلقى مكالمة من الشيخ كشك يوما للحديث معه عن برنامجه "غواص في بحر النغم"، وهو برنامج قدَّمه الموسيقار الراحل مع تحليلاته للمقطوعات الموسيقية وحظي بإعجاب واسع من متابعي الموسيقى. وبحسب رواية الشريعي فإن كشك أخبره أنه محب لأغاني أم كلثوم القديمة القَيِّمة، كما حكى الممثل المصري يوسف شعبان أن الشيخ الشعراوي حيَّاه هو وسميحة أيوب بعد أدائهما لمسرحية "دماء على ستار الكعبة"، وأخذ يدعو لهما بعد مشاهدته للعرض.

 

هاجم الشيخان الفن الناصري، فن الستينيات الذي دعا في نظرهما لسفور النساء وشرب الخمر بوصفه جزءا من أيديولوجية نظام الحكم العسكري الجديد (دين الاشتراكية الذي فرضه الحاكم كما سمَّاه كشك)، وكرَّس للعلاقات الغرامية خارج الزواج، فضلا عن تكريسه لقدسية الزعيم ورؤاه. بيد أن أيًّا منهما لم يكره الفن في المطلق، وتشير أدلة كثيرة إلى أنهما تابعا من كثب تطورات الحركة الفنية المصرية.

 

هل نشر الشعراوي القيم "الرجعية" في المجتمع؟

"هذه العمامة لن تركع إلا لله. لا يليق بعمامتي أن تسجد لغيرك يا رب، لأن هذه العمامة التي أضعها فوق رأسي لفَّها محمد نبيك بيده (يقصد في رؤية رآها)".

الشيخ عبد الحميد كشك

يركز أحد الخطابات المناهضة للشيخ الشعراوي في الفترة الأخيرة على خلفيته الريفية، زاعما أن آراء الشيخ "الرجعية" تعود إلى أنه كان مُمثِّلا للثقافة الريفية في مصر، ومن ثم فهو المسؤول عن نشر تلك الثقافة. ولكن بخلاف تجاهل هذا الخطاب لحقيقة أن الشعراوي لم يكن المؤثر الوحيد في الخطاب الديني المصري على صعيد الأفكار والرؤى طوال العقود السابقة، وأن الكثير ممن يُبجِّلونه حتى اليوم في مصر ربما لم يستمعوا بإنصات كامل لخطبة واحدة منه بالضرورة؛ دعونا ننظر نظرة فاحصة في الاختلاف الكبير في الموقف السياسي للشيخين اللذين جاءا من الريف وسيطرا على المناخ الديني إلى حدٍّ كبير في سبعينيات القرن الماضي، وهي نظرة لعلها تنفي من الأساس حقيقة المقولة التي تظن أن للريف ثقافة واحدة ساهم الشعراوي أو رجل غيره منفردا في انتشارها.

 

لقد ظل كشك يهاجم نظام السادات بضراوة، ولم يقتنع بالحرية النسبية التي أخذها هو وأبناء الحركات الإسلامية في عهد "الرئيس المؤمن"، في حين قَبِل الشعراوي منصب وزير الأوقاف في عهد السادات، إذ إن إطلاق السادات لهامش من الحرية في البلاد فضلا عن محاربته للشيوعية كان كفيلا بجلب تأييد الشعراوي له. وقد وصل هذا التأييد إلى حدِّ أنه في الجلسة رقم 43 لمجلس الشعب بتاريخ الاثنين 20 مارس/آذار 1978، قال الشعراوي: "والذي نفسي بيده، لو كان لي من الأمر شيء، لحكمت للرجل الذي رفعنا تلك الرفعة (يقصد السادات)، وانتشلنا مما كنا فيه إلى القمة؛ ألا يُسأل عمَّا يفعل". وقد هاجم الشيخ في الجلسة ذاتها نواب المعارضة في البرلمان ممن هاجموه بصفته وزيرا للأوقاف قائلا: "أين كانت البطولات التي تظهر اليوم؟ أين كانت حين كان التعدي على الأموال والمُخصَّصات، وكانت تُراق دماء الأبرياء، ويُعتقَل الشرفاء ويُعتَدى على العِرْض، دون أن نسمع همسة تُنكِر مُنكَرا يحدث أمام الناس جميعا؟" (يقصد العصر الناصري).

 

لا يعني ذلك أن الشيخ الشعراوي لم يصطدم بالسادات، فقد حدث ذلك بالفعل مرة حين قال: "إن الأزهر الشريف لا يُخرِّج كلابا، بل علماء أجلاء ودعاة أفاضل"، وذلك حين وصف الرئيس السادات معارضه الشيخ أحمد المحلاوي قائلا: "أهو مرمي في السجن زي الكلب". ومع ذلك، انتمى الشعراوي في العموم إلى مدرسة ذات جذور عميقة في فكر أهل السنة تقوم على التسامح وإظهار الطاعة للحاكم مهما فعل وتقديم النصح له. ولربما ذهب الشعراوي في بعض الحالات بعيدا في هذا التقليد مثلما فعل حين قال تصريحه المذكور آنفا تحت قبة البرلمان، ما عرَّضه للهجوم من قِبَل الشيخ كشك نفسه الذي ردَّ غاضبا: "ماذا ستقول إلى الله بعد أن تلقاه"، في خطبة حارة افتتحها بالتأكيد أن فساد الحكام منبعه نفاق مَن حولهم.

في نهاية المطاف، تتجاهل الحملة المتكررة على الشعراوي بوصفه الرجل الذي نشر الرجعية في المجتمع حقيقة أن أوضاع المرأة أو مهاجمة ما يوصف بالقيم التقدمية أو حتى الدفاع عن سياسات السادات لم تكن أمورا مركزية من الأساس في خطاب الشعراوي. فقد اكتسب الرجل شهرته منذ بداية ظهوره في التلفزيون المصري مع الإعلامي أحمد فراج بسبب قدرته على إعادة تدبر آيات القرآن بعيون روحانية، وطريقته الفريدة في بساطتها في تفسير الكتاب الكريم، تلك الطريقة التي تسببت كثيرا في سخرية بعض المثقفين هي ما أكسب الشيخ مكانته عند الجمهور، فقد استطاع النزول إليهم بأبسط الأمثلة وأكثرها ارتباطا بحياتهم اليومية. لقد اجتذب الشعراوي جماهير القوى العاملة التي سعى اليسار للمفارقة لكي يجذبها هو.

 

نجح الشعراوي، بخطابه السلس والقريب، في جذب جماهير المصريين الذين ساءت أحوالهم الاقتصادية يوما بعد يوم، وحملوا عبء هزيمة غيَّرت حياتهم الاجتماعية والاقتصادية بصورة جذرية، وقادهم إلى استشعار لحظات من المشاعر الدينية الصادقة. وقد كان لدى الشيخ القدرة على تقديم تصور روحاني أكثر رحابة عن السعادة والأبدية والرزق ترك بالغ الأثر في مستمعيه. ولعل البعض ينسى أن جمهور الشعراوي الأساسي في النهاية كان وما زال من المتأثرين بالصوفية المنتشرة بطول الريف المصري وعرضه، حيث تعود جذور معظم أبناء الطبقة العاملة في الأخير، كما أن الكثيرين ممن هاجموا الشيخ هم من أبناء التيارات السلفية. علاوة على ذلك، يتناسى البعض أن الشعراوي لم يكن المؤثر الوحيد في الخطاب الديني المصري طيلة العقود الفائتة، وأن هناك قنوات إعلامية حققت نجاحا كبيرا في العقد الأول من القرن الحالي نشرت الطائفية والتشدُّد، ولعلها هي مَن شاركت في ترك ذلك الأثر الذي يتحدث عنه منتقدو الشعراوي بين الحين والآخر، وليس الشعراوي نفسه.

 

فكما رأينا، حتى في زمن الشعراوي نفسه لم يكن هو الوحيد الذي يسيطر على الساحة الدينية في مصر، بل حضر في الساحة منافس له لم يكن أقل قدرة على جذب الجماهير. ورغم اتفاق التوجهات الأزهرية الأشعرية للرجلين، كان لكل واحد منهما طريق جد مختلفة عن الآخر. وبعيدا عن هذا وذاك، كانت الجماعات التكفيرية موجودة، تلك التي ظهرت للتو على أطلال الأزمة الاقتصادية الخانقة التي بدأت في عصر السادات وبداية تآكل الطبقة المتوسطة، كما عاود الإسلام السياسي الظهور من خلال جماعة الإخوان المسلمين تحت قيادة مرشدها عمر التلمساني.

لكنَّ الشيخين تحديدا حظيا بعلاقة استثنائية مع قطاع عريض من المصريين حتى بعد موتهما. فقد تحوَّل الشيخ الشعراوي إلى رمز مقدس حتى عند مَن لم يستمع لخطبة كاملة واحدة منه، وبات يُعامل معاملة الأولياء الصالحين، كما يتعامل المصريون تماما مع المرسي أبي العباس وأحمد البدوي. وكذلك كان الحال مع الشيخ كشك، ليس فقط عند الحركات الإسلامية السياسية، بل حتى إن السلفيين الذين كثيرا ما انتقدوا استخدامه للأحاديث الضعيفة على حد قولهم صاروا بعد موته يتحدثون عنه بإجلال، إذ مات الرجل ساجدا وتكاثرت الروايات عن أن جثته لم تتحلل في قبره، فيما يشي لنا بأنه تحوَّل هو الآخر إلى ولي في نظر قطاع عريض من المصريين والمسلمين المتابعين له (بما في ذلك قطاع من الشيعة بسبب مواقفه من السادات الذي عادى الثورة الإيرانية).

 

كثيرون هُم مَن قلَّدوا الرجلين، وكثيرون هُم مَن حاولوا أن يحصدوا مكانتهما، لكن سر المكانة التي منحها المصريون لهما سرٌّ مركب لا يُمكن فهمه دون السياق الاجتماعي والتاريخي الأوسع، وهو لا يتعلَّق بالضرورة بأفكارهما بقدر ما يتعلق باستشعار صدقهما وقدرتهما على الاتصال بشرائح اجتماعية مُعتبرة من الشعب المصري تغيَّرت مصائرها تغيُّرا جذريا طيلة العقود الثلاثة الماضية، وتغيَّر كذلك ما يحيطها من الإمكانيات ووسائل الاتصال وطبيعة السياسات والحُكام والخطابات الدينية. في النهاية، قد يكون سهلا على البعض أن يُرجِع سلوكا اجتماعيا سلبيا إلى خطاب شخص مؤثر بعينه، ولكن الطريق الأصعب دوما هو قراءة الظرف الأكثر تعقيدا الذي عاشه الناس وشكَّل ميولهم نحو خطاب أو شخص من عدمه، بل والسياق الأوسع الذي تشكَّلت من خلاله تلك الشخصيات المؤثرة ذاتها.

—————————————————————————————————

المصادر:

  1. كتاب قصة أيامي: مذكرات الشيخ كشك
  2. كتاب الشعراوي تحت قبة البرلمان
  3. كتاب قصة الاقتصاد المصري
  4. كتاب عبقري الإصلاح محمد عبده
  5. الفقية والسلطان…كيف استغل عبد الناصر الإسلام لبسط سلطته؟
  6. محمد متولي الشعراوي
  7. الشيخ الشعراوى سجد شكرا عندما علم بنكسه 1967، لماذا ؟
  8. الشيخ كشك وهجر المرأة
  9. العلاقات الزوجية مشاكلها وحلولها 1 للشيخ عبد الحميد كشك
  10. الشيخ الشعراوي لماذا خلق الله ثديا للرجل
  11. رأي الشيخ الشعراوي في الفن
  12. عمار الشريعي والشيخ كشك
  13. عبد الحميد كشك: هذه العمامة لن تركع إلا لله
  14. محمد الباز يهاجم الشيخ الشعراوي
  15. هجوم الشيخ كشك على الشيخ الشعراوي
  16. الشيخ الددو: جثة الشيخ كشك لم تتحلَّل
المصدر : الجزيرة