شعار قسم ميدان

بين جوبز وزوكربيرغ وماسك.. هل أصبح شرير السينما الأميركية الجديد رائد أعمال؟

في المشهد الأول من فيلم "ستيف جوبز" (Steve Jobs) الصادر عام 2015، يصب رائد الأعمال الشهير، الذي يلعب دوره الممثل مايكل فاسبندر، كل اهتمامه على شيء واحد فقط يتصور الآخرون حوله أنه غير مهم، وهو أن ينطق جهاز "ماكنتوش" الجديد الذي يُفترض أن يُعرض على الجمهور لأول مرة خلال أقل من ساعة كلمة "مرحبا" بصوت واضح، بل يُهدِّد جوبز بإلغاء الحفل كاملا إن لم يحدث ذلك.

بطل أميركا الجديد

يحرص جوبز على أي شيء يمكن أن يُدهش الجمهور ويُغير فكرته عن تلك المنتجات التي يعرضها، حتى إنه في الفيلم طلب تبديل قميصه مع أحد المهندسين قبل العرض، لأن جيب قميص هذا المهندس يتناسب مع حجم "الديسك" الخاص بالتخزين، وبالتالي سيبدو صغير الحجم بالنسبة للجمهور، ويقول إن هوليوود جعلت الحاسوب مخيفا، وعليهم أن يُعيدوا الشعب الأميركي إلى الحواسيب مرة أخرى.

في هذا السياق، يلعب ستيف جوبز دور البطل الأسطوري الأميركي التقليدي. نعم، هو يود أن يكسب انتباه الجمهور بأي ثمن، حتى إنه في بعض الأحيان يُعلن عن منتجات لم تنتهِ بعد، لكن من وجهة نظر الفيلم هو يفعل ذلك لأنه يُنتج أشياء ستُحدِث ثورة في العالم كله، وستساعد الفقراء والأغنياء على حدٍّ سواء. قدر المبالغة في توصيف الأمر بلغ أنه قال لإحدى الموظفات أن تخبر رجال الإطفاء بالخارج أنهم في القاعة "يُغيرون العالم"، أما صديقته ومديرة تسويقه جوناه هوفمان فتقول له في أحد المشاهد: "اذهب وأَحدِث تغييرا بالكون".

فيلم "ستيف جوبز" هو ببساطة قصة شخص لديه فكرة عظيمة، لها جانب أخلاقي، ستغير العالم، ورغم فشله عدة مرات، فإنه يستمر في إيمانه بفكرته حتى يصل إلى مبتغاه في النهاية، وحتى بعض الجوانب التي يمكن أن تُسيء إلى جوبز في الفيلم، مثل إنكاره ابنته على مدى سنين طوال، قُدِّمت في سياق يخدم شخصية جوبز المُلهم الذي يسعى لتغيير العالم.

لص القلوب والجيوب

في عام 2016، خرج فيلم "ذا فاوندر" (The Founder) الذي يتحدث عن قصة صعود أخرى، حيث يتناول السيرة الذاتية لـ"رايموند كروك"، الاسم الشهير الذي ارتبط بتأسيس إمبراطورية ماكدونالدز العملاقة. يهتم كروك بالفكرة نفسها وهي العمل على الجمهور، ففي أحد مشاهد الفيلم النهائية، وبعد صراع طويل على العلامة التجارية "ماكدونالدز"، يقف مع دوك، صاحب المطعم الأصلي، الذي يسأله: "كان من الممكن أن تفتح مطعما خاصا بك، لمَ قاتلت إلى هذا الحد كي تحصل على اسم العلامة التجارية؟"، هنا يجيب روك أن سر عظمة ماكدونالدز هو الاسم، إنه بسيط، وسهل الحفظ، وأميركي للغاية.

كان كروك ذكيا كفاية ليدرك نقطة قوة علامته التجارية، وكان الفيلم لينتهي مع أحد عظماء ريادة الأعمال مثل سابقه، لكنه لم يفعل، ففي المشهد النهائي يقف كروك ليواجه جمهور المشاهدين بوضوح ليقول إن هناك الكثير من المتعلمين والموهوبين والأذكياء في هذا العالم، لكن الإصرار والعزيمة والطموح اللا محدود فقط هي الأشياء التي يمكن أن تصنع النجاح.

لم يكن الفيلم في الحقيقة محاضرة في التنمية البشرية (وهو ما يرى البعض أنه حدث في فيلم جوبز)، كان فريق العمل هذه المرة محايدا في عرض القصة، بل ويستهدف أن تجلس مع نفسك بعد كلام كروك في نهاية الفيلم كي تتساءل عما قاله، ستقول لنفسك: يظهر بوضوح أن كروك استولى على المطعم من صاحبيه، وكان حقيرا بما يكفي ليفعل ذلك، أو قُل "عدائيا" إذا وددت أن تكون محايدا بعض الشيء.

أضف إلى هذا أن الفيلم أظهر بوضوح أن كروك كذلك استولى على جوان سميث زوجة صديقه ورفيق عمله. وبالطريقة نفسها، يُظهر الفيلم ما حدث بشكل محايد، لكنه يتركك لتتساءل حول طبيعة هذا الرجل الانتهازية، وإذا ما كانت أفعال كهذه تندرج تحت صفات "الجد" أو "العزيمة" أو "الطموح".

السترة السوداء التي تجعله فاتنا

وعموما، كانت هاتان هما الطريقتان اللتان قدمت بهما السينما الأميركية رواد الأعمال خلال عشر سنوات مضت، سواء كان رائد الأعمال شخصية حقيقية أم مصطنعة، لكن مع قدوم عام 2021 في فيلم "دونت لوك أب" (Don’t Look Up) الذي تسبَّب في ضجة وقت صدوره، تغيَّر كل شيء، وظهرت رؤية جديدة يبدو أن هوليوود ترغب في تقديمها. يُقدِّم الفيلم شخصية بيتر إيشرويل الذي يلعب دوره مارك رايلانس، وهو رائد أعمال في مستوى بيل غيتس أو ستيف جوبز أو إيلون ماسك، ويُسخِّر شركاته لحل مشكلة البشرية، وهي عبارة عن مُذنَّب قادم من غياهب المجموعة الشمسية لتدمير الأرض.

كيف عرفنا أنه رائد أعمال مثل ستيف جوبز؟ كان فريق عمل الفيلم بارعا في تلك النقطة، فقد التقطوا ثيمة أساسية ميزت ستيف جوبز ومارك زوكربيرغ وباتت موضة في عالم ريادة الأعمال، وهي أن يرتدي الشخص الملبس نفسه في كل مرة يظهر فيها على التلفاز، عرفنا جوبز يرتدي سترة سوداء ذات ياقة مدورة وبنطال جينز أزرق مع حذاء رياضي يوميا، وهو أمر لم يكن معتادا بالنسبة للرئيس التنفيذي لشركة بقيمة مليارات الدولارات.

في المشاهد الأولى من الفيلم تتضح الثيمة الرئيسية للشخصية الشريرة التي سنقضي معها بقية الوقت، إنه -مثل سابقَيْه- يفعل أي شيء ليقع الجمهور في حبه وحب مُنتجه، حينما يقف إيشرويل على المنصة أمام الناس، فإنه يكون مُحاطا بأطفال ذوي شكل بريء من جميع الخلفيات الإثنية، لكن بعد انتهاء الحفل تقول طفلة له إنه قدوتها في الحياة، لكنه لا يسمعها حتى أو يلتفت إليها بأي صورة، الآن نعرف أنه نرجسي لا يأبه إلا لمصلحته، التي تتخفى وراء مصلحة البشرية جمعاء، ووظائف لكل الناس.

في فيلم "دونت لوك أب" يشمر إيشرويل قميصه مثل ستيف جوبز ويرتدي تقريبا الملبس نفسه طوال الفيلم.

على العكس من فيلم "ستيف جوبز"، فإن رائد الأعمال هنا هو نموذج مثالي للمحتال الذي يدرك أنه إذا رأى الناس أنك جيد في أحد جوانبك (ليكن كلامك الطيب مثلا أو شكلك الجميل البسيط أو طموحك البادي للجميع) فإنهم يتصورون أنك جيد بالتبعية في أشياء أخرى مثل أخلاقك أو ذكائك أو قدراتك على الإنجاز أو خبراتك في نطاق عمل ما، إنه ما يُسمى في علم النفس بـ "تأثير الهالة".

لذلك يهتم رائد الأعمال في هذه الحالة بأن يبدو لطيفا، بسيطا في ملبسه وأنيقا في الوقت نفسه مثل ستيف جوبز، محبا للجميع وللإنسانية والسلام العالمي مثل مارك زوكربيرغ، وعبقريا إن أمكن، خذ مثلا نموذج إيلون ماسك، فهو بارع جدا في الظهور الإعلامي على أنه الشخصية الكاريزمية التي ستُغير العالم، يود أن يحتل المريخ خلال أقل من 50 عاما، ويزرع شرائح روبوتية ذكية في أدمغة الناس، ويسافر عبر صواريخه الفالكون إلى أبعد مكان في الكون.

خليط بين ماسك وجوبز وزوكربيرغ

ويبدو أن إيشرويل هو نموذج يمتزج فيه كلٌّ من ستيف جوبز وزوكربيرغ الهادئين مع إيلون ماسك الأنيق، فحرصه الشديد على أن تخرج مركباته في أجمل صورة، بغض النظر عن قدراتها، مقتبس من حرص ماسك أن تظهر مركباته الفضائية وكبسولاته الخاصة بالمحطة الدولية وكأنها قادمة من المستقبل فعلا، غير أن مركبات ماسك بالفعل تؤدي الغرض منها بنجاح.

لكن جوهر شخصية إيشرويل يبدو أنه مستلهم من شخص آخر تسبَّب في ضجة مؤخرا، إنها إليزابيث هولمز التي سُميت "أصغر مليارديرة في التاريخ"، وتخطت قيمة شركتها السوقية حاجز 9 مليارات دولار أميركي، رغم أنها ظلَّت -طوال أكثر من عشر سنوات- تتاجر بأوهام علمية عن جهاز فحص دم جديد يمكنه أداء مئات الاختبارات فقط عبر نقطة دم واحدة يمكن سحبها من طرف إصبعك بدون ألم، قبل أن يثبت أن كل ذلك هو عملية احتيال كبيرة.

مثل هولمز، كان إيشرويل يعرف جيدا أن هناك نقطة ضعف أساسية في هذا العالم، وهي أنه لا أحد يفهم في الطب أو الميكانيكا الفضائية، المهم أن تظهر وكأنك تفهم، حتى لو كان هذا الشيء يحتاج إلى الكثير من البحث العلمي والأوراق المنشورة في دوريات رصينة، في أحد المشاهد ينبهر الجميع بالمركبة الفضائية الخاصة بالسيد إيشرويل، بينما يسأل د. راندال مندي عن الأوراق البحثية حولها، وهنا يهاجمه إيشرويل بحِدَّة.

يبدو كل شيء حول إليزابيث هولمز مصطنعا ويستهدف إبهار الجمهور، دون أية خلفية علمية؛ شكلها، وأحاديثها في اللقاءات التلفزيونية والإخبارية العديدة، ظهورها الدائم على أغلفة أرقى المجلات، حتى صوتها نفسه في محاضراتها بـ "تيد" كان مصطنعا ليبدو عميقا وقويا.

إلى جانب ذلك أظهرت هولمز دائما ذلك الشغف الشديد بما تفعل، وكأنها بالفعل قادرة على تحقيق المعجزات، هناك دائما تلك الحكايات المؤثرة عن عمٍّ شُخِّص بالسرطان لكن لسبب ما كانت الفحوص بطيئة، غالبا ما تشارك هولمز على صفحاتها على وسائل التواصل جملا من نوعية "أنت تستطيع"، و"لا تدع أحدا يخبرك بما تريد". يلخص تايلور شولتز، أحد الباحثين السابقين في ثيرانوس، شركة التكنولوجيا الصحية المنهارة الخاصة بتايلور، تلك القصة قائلا: "لقد كانت بارعة للغاية في إخبارك ما تود سماعه، لقد كانت بارعة في ذلك جدا".

إليزابيث هولمز على غلاف الفوربس ترتدي مثل ستيف جوبز.

رجل الديناصورات الأخير

ويبدو أن المحاولة الأولى للسينما الأميركية مع "رائد الأعمال الشرير" قد نجحت، حيث ظهرت المحاولة الثانية فورا في يونيو/حزيران 2022 مع صدور الجزء الثالث من سلسلة "جواراسيك وورلد" (Jurassic World)، رائد الأعمال هذه المرة هو لويس دوجسون، ويقوم بدوره كامبل سكوت، كيف نعرف أنه رائد أعمال من النوع المنشود؟ لا بد أنك تدرك الفكرة الآن، إنه يرتدي الملبس نفسه طوال الفيلم، وهو أيضا قريب من ستيف جوبز في الشكل العام.

في الفيلم، يهتم دوجسون مثل سابقه بالمظاهر قبل أي شيء، يود أن يظهر في صورة فوتوغرافية مع عالم ديناصورات كبير، لأنه يعرف جيدا ما الذي يمكن أن يُقال عن هذه الصورة في إحدى محاضرات "تيد"، يقول إنه يود تغيير العالم عبر تكنولوجيا حيوية جديدة، لكنه في الواقع يريد تحقيق أرباح شخصية، وهو يخفي نِيَّاته تحت شخصية هادئة، مع نبرة صوت هادئة ومُحبة، تُشعرك لوهلة أنها لأحد المفكرين أو الممارسين للتأمل وهراءات الطاقة الروحية.

في الفيلم أيضا يظهر أحد الملامح الأساسية للإنتاج العلمي لهذه المؤسسات، وهي السرية التامة، في أحد المشاهد يقول الدكتور إيان مالكوم للعاملين في فريق دوجسون: "إنهم يُغرقونكم بالترقيات والعلاوات، لكن هناك أبواب لا يمكن لأيٍّ منكم أن يدخلها"، في فيلم "دونت لوك أب" تظهر الثيمة نفسها، التي تقف على العكس تماما من طبيعة البحث العلمي والنشر في المجلات المختصة، من أجل التأكد من صحة هذه النتائج أيًّا كانت.

الشرير الجديد

هل وجدت السينما الأميركية شريرها الجديد إذن؟ حسنا، بعد النجاح المدوي لـ "دونت لوك أب" والشهرة الطبيعية لسلسلة "جوراسيك وورلد"، يبدو أننا أمام حقبة زمنية قادمة سيكون رائد الأعمال فيها هو الشخصية الشريرة، والواقع أن هذه الشخصية المستخلصة من رواد الأعمال المعاصرين مثل جوبز وماسك وهولمز معقدة ومركبة وتزخر بالكثير من الأبعاد التي يحبها مخرجو السينما، وبالطبع فإنها تتناسب مع الهوس الهوليوودي المعروف بالنرجسيين، ذوي الطباع الهادئة الذين يخفون داخلهم شياطين جاهزة للقتل لأجل رغباتهم الخاصة.

لكن هناك جانب سياسي للأمر يؤجج تلك الحاجة إلى رائد الأعمال الشرير، حيث شهدت السنوات الأخيرة صداما كبيرا بين رجال السياسة ورواد الأعمال، خذ مثلا استدعاء الكونغرس المتكرر لمديري شركات غوغل وفيسبوك وأبل وأمازون للتساؤل حول قضايا تتعلق بالاحتكار والتضليل واختراقات الخصوصية وغيرها من الاتهامات الثقيلة.

 

للمزيد: محاكمة الأباطرة.. لماذا قرر الكونغرس الأميركي استجواب أمازون وفيسبوك وأبل وغوغل؟

والواقع أن اليمين الجمهوري في الولايات المتحدة الأميركية بات يتخذ موقفا مناوئا لهذه الشركات وأصحابها بوضوح، خاصة بعد الصراع المحتدم لأباطرة التقنية مع الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترامب الذي أشعل فتيل نظريات المؤامرة المتعلقة بشركات مثل تويتر أو فيسبوك، ومن ثم انطلقت الدعاية المؤامراتية الجمهورية المعتادة لتغرق الجمهور الأميركي بحكايات عن زوكربيرغ الذي سافر إلى جزيرة كذا ليشرب من دماء الأطفال الصغار مع السيدة هيلاري كلينتون، إلى جانب حكايات شبيهة تتسم بالأهازيج المرعبة نفسها، والمحببة لليمين المتطرف في كل مكان.

عادة ما تجد السينما الأميركية في هذا النوع من الصراعات ونظريات المؤامرة الخاصة بها فرصة لإظهار الشرير الجديد، لأن ذلك يجذب قطاعا عريضا من الجمهور لتقبُّل الشخصية، هذا معروف بالطبع منذ الأيام التي كان فيها السوفيتي أو الروسي هو الشرير العظيم، ثم أصبح المسلم بعد أحداث 11 سبتمبر، وظهر الصيني بالطبع في فترة من الفترات، والآن ينضم إلى هذا الفريق رائد الأعمال الأنيق، الذي يرتدي الرداء الأسود نفسه الذي يجعله يبدو هادئا ومتواضعا، لكنه يُخفي نِيَّاته الخبيثة، مرة بعد مرة.

المصدر : الجزيرة