شعار قسم ميدان

مسلسل "The Rings of Power".. كيف يمكن أن تفسد أحد أعظم الأعمال الأدبية في 8 حلقات فقط؟

مسلسل The Rings of Power.. كيف يمكن أن تفسد أحد أعظم الأعمال الأدبية في ست حلقات فقط؟

"سينقسم العالم إلى نصفين، نصف قرأ ثلاثية المؤلف البريطاني جون رونالد رويل تولكين، ونصف على وشك أن يفعل عما قريب"(1). هكذا كتبت صحيفة نيويورك تايمز لحظة صدور الجزء الأول من سلسلة أفلام "سيد الخواتم" (The Lord of the Rings) في قاعات العرض السينمائية قبل 21 عاما، لتتنبأ بأن ثلاثية تولكين لم تكن الأهم في تاريخ الفنتازيا فحسب، بل في تاريخ الأدب السينمائي كله.

 

يحكى أن

"يُحكى أنه في حفرة بالأرض كان يسكن أحد الهوبيت"، في إحدى الليالي ينطق تولكين بتلك الكلمات التمهيدية لأطفاله الأربعة "جون" و"مايكل" و"كريستوفر" و"بريسيلا" الممددين على أسِرَّتهم مترقبين حكاية ما قبل النوم التي سيقصها عليهم أبوهم. كانت تلك الأحرف بمنزلة بساط سحري إلى عوالم لم يتوانَ الرجل عن اختلاقها بمحبة أبوية خالصة. كانت رواية "الهوبيت" مبتدأ أعماله الروائية التي كوَّن مخطوطاتها في أوائل الثلاثينيات، أسند فيها تولكين البطولة إلى أقزام ذوي أحجام ضئيلة وقامات قصيرة، رهيفي الحس ووادعين، وصاخبين وثرثارين، يسكنون البيوت الصغيرة أو الثقوب القابعة تحت الأرض، ينزعون إلى الاستقرار إذ لا يغويهم الارتحال أبدا، ولهم عيون تتسع عند سماع كل صوت يجسر على اختراق وجوم الليل، إنهم الهوبيت.

 

ربما تكون مزاوجة تولكين بين عمله الأكاديمي في اللغات وشغفه بقص الحكايات هي ما ساعده على إبداع "ميدل إيرث"، القارة الخيالية التي يقيم فيها الهوبيت والسحرة والجان والعفاريت والأشجار الناطقة والمخلوقات الأسطورية الأخرى(2)، بيد أن تلك القارة لم تَحْيَ فقط في خيال مبتكرها، إذ رسم عددا من الخرائط لها في خضم كتابته عنها، ملحقة بتاريخ كثيف ومفصل لها، وإلى جانب ذلك أسهب في وصف الطبيعة والأهمية التاريخية؛ ما أغدق على العمل مسحة واقعية جعلت القارئ يتتبع كل شخصية على حِدَة، ويكون مُلِمًّا بمواقع هذه الشخصيات كأي سهل يقفون عليه، وأي جبل يلوح أمامهم في الأفق(3).

من رسومات تولكين
من رسومات تولكين (مواقع التواصل)

تنحاز اللغة في بدايات الثلاثية إلى الأطفال في توجهها، وهي بذلك أبعد ما تكون عن التعقيد والتركيب، لكنها بعد ذلك تستوي كالثمرة وتنضج، تتلطخ بشيء من السوداوية، لتنتهي بانحراف مفاجئ للحبكة جعل بعض المنظرين يقاربون عمله بروايات العصور الوسطى مثل "السير جاوين" و"الفارس الأخضر". نشر تولكين الجزء الأول "الهوبيت" في 1954، متبوعا بجزأين آخرين هما "البرجان" و"عودة الملك"، لتصنف الثلاثية أحدَ أعظم إنتاجات أدب القرن العشرين، إلى حد أن كرَّس البعض مجهوداته في رسم تلك الثلاثية، ومن بينهم مارجريت الثانية، ملكة الدنمارك (4).

 

التحولات

 

يُسقط تولكين بعضا من جوانبه الخفية على شخوصه. ففي الثالثة من عمره، تعرَّض للدغة من عنكبوت سامة كادت تودي بحياته، منحته تلك الواقعة خوفا مَرضيا من العناكب، خاصة بعد وفاة والده بعد ذلك بفترة قصيرة؛ ما دفع به إلى زج بطله "سام" إلى موقف مماثل في الجزء الثالث من ثلاثية الأفلام حين اقتربت العنكبوت من الفتك به. وانطبعت صورة الطبيب الذي عالجه في صغره، ثورتون كويمبي، لتوحي له بشخصية جاندالف.

 

يُدعى للحرب في شبابه بعد تخرجه في جامعة أكسفورد، ويعود بوصفه أستاذا في تلك الجامعة، ويكتسب شهرة بصفته لُغويا. يتذكر ما لقَّنته له والدته من اللاتينية وما غرسته بداخله من حب النباتات والأشجار فينقلها إلى كتاباته. هل قصد الكتابة أولا لمراوغة الويلات الطاحنة للحرب العالمية الثانية التي عاصرها أيضا؟ ربما.

تولكين
المؤلف البريطاني "جون رونالد رول تولكين" (مواقع التواصل)

وجد إلهامه في العديد من الأشياء، كإيمانه الكاثوليكي، وصداقته مع الكُتّاب البريطانيين الآخرين مثل سي إس لويس، وفي تراث الحكم الروماني وأساطير الشرق في العصور الوسطى، وكذلك في الافتتان المصري بالعمارة الجنائزية، وكتاب "الجمهورية" لأفلاطون الذي أتى على ذكر خاتم الجيكس باعتباره أداة سحرية تمنح صاحبها قدرة على الاختفاء. ويبقى تاريخ العصور الوسطى مصدرا قويا لا لتولكين فحسب، بل لـ"جورج ر. ر. مارتن" ومسلسله "صراع العروش".

 

وجدت الثلاثية سبيلها إلى السينما بعد عدة محاولات منسية، نجت منها سلسلة المخرج النيوزيلندي "بيتر جاكسون" الخالدة التي حظيت بنجاح فائق، بإجمالي إيرادات ناهز 3 مليارات دولار، وبفوز مستحق بـ17 جائزة أوسكار. لكن ما سبق كله كان مقدمة طويلة جدا وضرورية كذلك للمرور من هذه الرائعة السينمائية إلى إنتاج جديد متعلق بها، وهو مسلسل "سيد الخواتم: خواتم القوة" (The Lord of the Rings: The Rings of Power) الذي انتهى عرض الموسم الأول منه للتو على منصة "أمازون برايم" (Amazon Prime) بميزانية إنتاجية تقدر بمليار دولار، ويعتقد أنه أكثر العروض التلفزيونية تكلفة على الإطلاق(5). وقد أخرجه "خوان أنطونيو بايونا"، وطوّره كلٌّ من "جي دي باين" و"باتريك مكاي".

 

أول فارق بين الأفلام والمسلسل هو أن أفلام جاكسون كانت موالية للروايات، بينما اختار المسلسل الحياد عنها، لم يقتبس سوى أجزاء مختلفة من نصوص تولكين الكلاسيكية، والخطوط العريضة في ختام الجزء الثالث من الثلاثية "عودة الملك"، وربما ملاحق الكتب الأصلية، والسيلماريليون (The Silmarillion)، أو مجموعة الأشعار الخرافية لتولكين التي تسهب في توصيف الأرض الوسطى التي تقع فيها حوادث الهوبيت وسيد الخواتم. ما كتبه تولكين إذن أقرب إلى الشراع الذي يوجِّه دفة مركبنا.

كتاب
رواية السيلماريليون (The Silmarillion) (مواقع التواصل)

 

في زمن من السلام الهش

تحكي "جنيفر سالك"، رئيسة إستوديوهات أمازون، في لقاء لها أن ما نشاهده هو البنية التحتية التي تُعِدًُنا لخمسة مواسم من الإنتاج كجزء من صفقة حقوق ملكية قيمتها 250 مليون دولار أبرمتها أمازون. يعني هذا أن ننتظر قصة مفصلة لصراع الخير مقابل الشر، مع تحديد واضح لهوية الشخصيات، وماهية العوالم واجتماع أفرادها معا لإنقاذ العالم (6).

يقع المسلسل في زمن السلم، إبان عام 3441، أو ما يُعرف بالعصر الثاني في اﻷرض الوسطى، قبل آلاف السنوات من ذهاب "فرودو" و"سام" في رحلتهما لتدمير الخاتم، حيث يجب على اﻷبطال مواجهة شر جديد في تلك اﻷرض وسط سلام هش، يكافح فيه العالم لإعادة اتزانه بعد الصراع المدمر.

كيف يبدأ المسلسل؟ أطفال يركضون وسط الحقول الخضراء والقمحية، وعلى صفحة النهر تُرسِي "غالادريل" قاربا ورقيا من صنعها، يثقله أقرانها بالحجارة، فيختل اتزانه ويميل طرفاه ويعمد إلى الغرق. تجد الفتاة شيئا من السلوان عند أخيها الذي يصوغ لها قصة رمزية عن الأحجار المتساقطة وسفينتها التي ابتلعها النهر، عن النور الذي قد لا تستشفه سوى عندما تلمس الظلام.

يحدد ذلك المشهد رغم محدوديته العلاقة الأخوية المتينة التي تحرك غالادريل لخوض معاركها ثأرا لمقتل شقيقها، لكنها تنفي ذلك في الحلقة الخامسة، وترد مساعيها إلى عجزها عن إدارة الألم الذي بداخلها وعدم استطاعتها التوقف عن القتال، فلِمَ إذن أُسقط الدافع الذي أسّس له في البداية؟ الأمر أقرب إلى أن تجتهد في بناء مسار ثم تردمه تماما.

 

مشكلات كبيرة

حتى لحظة كتابة هذا التقرير لم يكن المسلسل قد انتهى بحلقاته الثمانية بعدُ كي نعتمد حكما نهائيا (تحديث: انتهى عرض المسلسل للتو في وقت النشر)، لكن السيناريو لا يبدو محكما، يخترقه رصاص القصور، والثغرات التي وقع فيها صانعو العمل.

 

يرجع النقاد عيوب الكتابة إلى الرهان على كاتبَيْ سيناريو تنقصهما الخبرة، والتكوين الهزيل لعالم الفيلم، وافتقار العمل إلى عامل محفز أو الحادث الذي يكون من خارج عالم البطل ويحثه على اتخاذ رد فعل، ثم تجاهل المرحلة التي يفترض أن تأخذ فيها غالادريل وقتا في التفكير نشاركها فيه هواجسها حتى نعبأ كفاية بتبعات قرارها، دون القفز مباشرة إلى القرار الذي تعزم عليه وهو الذهاب للأرض الوسطى والوثوب في عرض البحر.

كما يقتضي الأمر، يُضيِّق الكاتبان الخناق عليها فلا تجد بُدا من الرجوع إلى أرض الجان، يلقون بها في مملكة البشر نومينور، ويكاد تصميم الجزيرة والملابس التي يرتديها مواطنوها أن يتطابق مع لوحات عصر النهضة الإيطالية، ففي لوحة مدرسة أثينا -التي رسمها الفنان "رافائيل" إذعانا لطلب البابا يوليوس الثاني- نجد نقلا واضحا لدرجات الأزرق والبني والأصفر وغيرها إلى حد تشابه التكوين بين رسمة رافائيل مع لقطة من الحلقة الثالثة، في الحقيقة تبدو المدينة برمتها كأنها نسيج متكامل من ذلك العصر.

لقطة من الحلقة الثالثة لمسلسل "خواتم القوة"
لوحة "مدرسة أثينا" التي رسمها الفنان "رافائيل" (بالأعلى) ولقطة من الحلقة الثالثة لمسلسل "خواتم القوة" (بالأسفل) (مواقع التواصل)

إلى جانب ما سبق، سارت الحلقتان الأولى والثانية من المسلسل بإيقاع بطيء، لا تُقدَّم فيه الشخوص بشكل يجذب الاهتمام، تتحسن الحلقة الثانية بشكل كبير بتبلور عوامل الحكاية قليلا وإن بقيت بلا اتجاه. بطريقة ما تبدو الحلقات الثلاث الأولى كأنها عملية إعداد طويلة يمكن أن تسري خلالها الرتابة، ولا تتقدم هذه الوتيرة حتى الحلقة الخامسة التي تنطلق فيها غالادريل إلى مرماها، لتأخذ الحلقة السادسة منحنيا مختلفا نسبيا يتحرك على إثرها الماء الراكد.

 

الصوابية السياسية مرة أخرى

وعلى خُطى تولكين، يحوي المسلسل أقزاما هم الهرفوت، وخريطة لا تكف عن توجيههم، فيزدحم العمل بعدد لا يستهان به من الشخصيات النسائية والممثلين الملونين، كالأقزام السود؛ نظرا لأجندة هوليود الحالية التي تفرض وجود تنوع عِرقي وجندري رغم أن أصول الأقزام هنا تعود إلى الأسطورة الأوروبية، وهو بالفعل ما قد يجعل سوادهم أمرا غير منطقي.

 

ورغم ذلك لم يسلم المسلسل من الانتقادات لتوجهاته العرقية والجندرية. على سبيل المثال، كتب إيلون ماسك على تويتر قائلا: "كل شخصية ذكورية تقريبا حتى الآن إما جبانة وإما حمقاء أو كلاهما؛ فقط غالادريل هي الشخصية الوحيدة الشجاعة والذكية واللطيفة". في المسلسل، تتسلم النساء في المسلسل غالبا زمام القيادة، من البطلة إلى الملكة والمرأة البسيطة، يتصدر هؤلاء كل دعوة للتحلي بالشجاعة والقتال؛ ما قد يُظهر الرجال أقرب إلى المنصاعين أو المتخاذلين أو التابعين، وهو بالتأكيد ما أثار حنق زمرة من المشاهدين كإيلون ماسك.

وفي هذا السياق، يرى الناقد السينمائي "خليل حنون" أن المشكلة لم تكمن في التلاعب بالعِرقيات وهيمنة العنصر النسائي، وإنما في عدم التوظيف الصحيح لهما، وفي العجز عن استغلال تلك الأجندة، بشكل يجعل المتلقي يتجاوز ذلك التلاعب العِرقي ولا يثور عليه.

 

قد لا يُقدر للمسلسل الخلود كأفلام جاكسون، وقد يحدث أن تأخذ الأمور في التصاعد ويتحسن المسلسل لمستوى بديع في المواسم التالية، كل الاحتمالات ممكنة، لكن يتمنى الجميع أن ينجو المسلسل من الاحتمال الأول، لأننا بالفعل نستحق -في خضم هذا العالم السائل الذي نعيش فيه- قطعة فنية واحدة على الأقل بروعة "ملك الخواتم" التي تربت أجيال من عشاق السينما عليها.

—————————————————————————-

المصادر:

  1. الهوبيت (أو ذهابا وعودة) جورج رونالد تولكين، ترجمة: هشام فهمي، مي غنيم.
  2. How J.R.R. Tolkien Came to Write the Stories of ‘The Rings of Power’
  3. Lord of the Rings: The Fellowship of the Ring
  4. In The Rings of Power, it’s not horrifying to be a woman
  5. Review: The Lord of the Rings: The Rings of Power Is Filled With Beautiful Images and Tired Archetypes 
  6. Amazon Studios Head Jennifer Salke Breaks Down the $700 Million ‘Rings of Power’ Gamble and Plan for MGM Integration
المصدر : الجزيرة