شعار قسم ميدان

لا طريق للعودة.. لماذا وقعنا في حب فيلم سبايدر مان الأخير؟

يتسلل ضوء خفيض من شاشة السينما إلى جنبات صالة العرض، يكف الحضور عن تبادل الأحاديث الخافتة بينهم، وتتعلق أنظارهم بالفيلم الذي بدأ للتو: "الرجل العنكبوت: لا طريق للعودة (spider man: no way home)"، تتمة ثلاثية المخرج جون واتس. ومن فينة إلى أخرى، ومع تتابع المشاهد، تموج القاعة بالجَلَبة وتتداخل هتافات المتفرجين مع تصفيقهم.

لِنَدَّعِ أنك كنت هناك، أو ربما لا داعي لذلك؛ لأنك إذا لم تكن كذلك فمن المرجح أن الأصداء وصلتك بالفعل. تفرغ من مشاهدة الفيلم، تنصرف عبر الرواق الذي يفضي إلى خارج المكان، بجعبتك سؤال حيال مقدار استحقاق الفيلم لذلك الزخم المثار حوله، وإذا كان جيدا حقا. ما الذي حَدَا بالملايين للتوجه لحضور الرجل العنكبوت في دور العرض منذ بدء عرضه في 15 ديسمبر/كانون الأول؟ وكيف تدرج هذا العمل في إيرادات شباك التذاكر عالميا إلى أن صُنف أول فيلم يتجاوز حاجز المليار دولار في زمن الجائحة في أقل من أربعة عشر يوما فقط؟ وهل يمكن أن يكون هناك ضوء فعلا في نقطة بعيدة في نهاية النفق؟

تلك البقعة البعيدة على الجدار

شيء ما جذب الكاتب والمحرر "ستان لي" إلى حدّ عدم استطاعته أن يُنَحِّي نظره عن عنكبوت زاحف على جدار(1). إنه مجرد خاطر طرأ له فاستل منه شخصية الرجل العنكبوت، وذهب إلى ستيف ديتكو ليرسمها. ماذا لو لدغ ذلك الزائر أحدهم، فأمده بملكات خارقة وخفة في الحركة، وقدرة على التمسك بمعظم الأسطح، وإحساس استباقي يُنبهه إلى الاقتراب من الأخطار؟ وماذا لو كان ذلك الشخص لم يتعدَّ بعدُ العشرين؟

ستان لي

من هنا اختار ستان لي الخروج الجذري عن الأعراف الراسخة للبطل الخارق في الكتب الهزلية المصورة. ففي مطلع الستينيات، كان اليافعون في الكتب المصورة للأبطال الخارقين عادة ما يُحصرون في منزلة مساند للبطل الذي يتعداهم سنا وخبرة(2)، لكن سلسلة سبايدر مان خالفت ما كان دارجا، وجعلت بطلها هو طالب المدرسة الثانوية "بيتر باركر" الذي يخفي هويته السرية، ويقطن في كوينز.

وخلافا للأبطال اليافعين مثل روبن الذي تلقى دروسا على يد باتمان، لم يكن لدى سبايدر مان مَن يلقنه، لذا تحتم عليه أن يتعلم بأشد الطرق قساوة وأبقاها أثرا، ألا وهي التجربة. وتمسك ستان لي بألا يلقبه بالصبي كما كان جاريا على الشخوص في مثل سنه في حينها؛ لأنه أراد أن تتقدم الشخصية في العمر مع تقدم السلسلة، وحتى لا يجعله دون الأبطال الخارقين الآخرين(3).

اتخذت الشخصية موضعا لها على حواف الأشياء، بين الدنو منها والنأي عنها، بين النجاح والإخفاق. فجأة، ينزوي الأبوان عن الصورة ويشب بيتر باركر برفقة عمه "بن" وعمته "ماي". تعمد ستان لي إظهار تلك التطورات بغرض إثارة تعاطف القراء وقربهم من بطل يماثِلهم ويمثِّلهم. أراد ستان لي شخصية تحيا على أرض الواقع، وتشتبك معه، وتدخر وسعها لحياكة زيها الأحمر والأزرق الذي صممته بنفسها.

لم تتقبل مارفل في البداية منح الصدارة لبطل ليس ناضجا بالكلية بعد، ومع كل أوجه قصوره، وسماته الرومانسية، ومخاوفه المزمنة التي قد ترتبط عند القراء بالهواجس الذاتية للرفض وعدم الملاءمة والوحدة والقلق المتصل بالعمل والمال. هم اعتقدوا كذلك أن الطبيعة العنكبوتية للشخصية سوف تنفر الجمهور، لكن وقعها كان مدويا.

منذ البداية، كان مسلك سبايدر مان وطريقته حيادا في كل شيء عن قواعد الأبطال الخارقين السائدة، إذ إنه لا يكرس ملكاته الخارقة لمحاربة الجريمة قدر ما يوظفها ليحوز الشهرة والأضواء. وحده حادث أليم كمقتل عمه الذي تسبب فيه لص هو ما يحول مسار السلسلة بأكملها ويكسبها وجهتها الأخلاقية، دافعا بيتر باركر إلى عالم مكافحة الجريمة، بمراهقته المعتادة، وحس الدعابة الخاص به.

لم تمت سوى فترة وجيزة حتى كسب ستان لي الرهان، وسُمع دبيب الرجل العنكبوت في الأرجاء، منتقلا إلى عالم ألعاب الفيديو والمسلسلات التلفزيونية وسلاسل الأفلام، لتتوالى الاقتباسات السينمائية لشخصية منذ مطلع الألفية، وتبرز سلاسل مميزة، من أبرزها ما أخرجه سام رايمي وجون واتس.

سام رايمي.. البطل خلف القناع

أخلصت أفلام سبايدر مان لشخصية بطلها وطباعه وسرديته. يعود الفضل في ذلك أولا إلى المخرج سام رايمي في فيلمه "سبايدر مان"، من بطولة توبي ماجواير بجزئيه، والذي أجاب خلاله على معضلة استمرت عقدا من الزمن عن كيف يمكن تكييف الشخصية سينمائيا دون المساس بجوهرها.

بقدر ما حفل رايمي بصناعة فيلم مثير عن بطل خارق، فإنه كرس جزءا أصيلا من عمله لسبر أغوار البطل خلف القناع، وما يلاقيه من مصاعب ومحن مهما بدت مراهقة وسطحية في ظاهرها. بعد ذلك، ينتقل رايمي بسلاسة بشخصيته إلى عالم المسؤوليات الكبرى، مسلطا الضوء على كيفية تعامل بيتر معها ومدى سطوتها عليه، جاعلا من لحظة الخسارة محطة للانطلاق، يعزم بعدها البطل على تحمل المسؤولية وقبول تبعات قراراته وأخطائه التي كلفته وظيفته والفتاة التي يحبها وصديقه المفضل(3).

لكن رايمي في الأصل هو مخرج رعب عُرف بكلاسيكيات أبرزها فيلم الشر المميت (The Evil Dead)، الذي وظف فيه اللقطة الذاتية أو "Point-of-View Shot" كما يعرفها صناع السينما، قبل أن يستدعي هذه التقنية مجددا في الجزء الثاني من سبايدر مان. في هذا النوع من اللقطات، تُظهر لنا زاوية الكاميرا ما تراه الشخصية عن شيء ما أو حدث ما، لنجد أمامنا محض ضحية عاجز يفر من شيء مخيف، أو يديم النظر إلى شيء مرعب.

في أحد المشاهد يتردد دكتور أوكتوبوس على هاري أوزبورن مطالبا إياه بكميات هائلة من التريتيوم (نظير الهيدروجين)(4). لا يسير الشرير الخارق إلى الباب الأمامي لأوزبورن فحسب، بل يستخدم ذراعيه الروبوتية اللامسة لتسلق جانب المبنى مستعرضا هيمنته في المشهد. يشعر هاري بالتوتر عند سماعه ضوضاء قادمة من اتجاهات مختلفة، وعندما يدرك مصدرها أمامه تتسع حدقة عينيه، ينظر ببطء إلى أسفل حافة الشرفة ليرى مخالب أوكتوبوس تنقض عليه وتهاجمه. عبّر رايمي عن شعور هاري بعدم الارتياح من خلال اللقطات المقربة لوجهه وانعكاس ما يراه، لنرى نحن شخصا ليس لديه خيار فيما يواجهه.

نهايات محتومة بالنسيان

بعد رايلي، جاء المخرج جون واتس ليعلي ثيمة الاختيار في ثلاثيته من بطولة توم هولاند التي أتمها بالجزء الأخير "سبايدرمان.. لا طريق للعودة"، لافتا في عنوانه إلى أن بيتر باركر لن يجني عواقب صنيعه فحسب، بل إن ما يتخذه من قرارات سيترتب عليها مصيره دون رجعة.

المخرج "جون واتس".

أقام واتس رباطا بين أجيال ثلاثة، بجمع شتات الممثلين الثلاثة الذين لعبوا معا أدوار البطولة في أفلام سبايدر مان على مدار العشرين عاما الماضية، من توم هولاند إلى أندرو جارفيلد وصولا إلى توبي ماجواير في سابقة من نوعها، من خلال تبني فكرة العوالم الموازية التي تبلغك أن نسخة طبق الأصل منك تحيا في عالم بديل لك.

كان هذا هو أحد أهم الأسباب في النجاح المدوي للفيلم، لقد استثمر مباشرة في عشاق سبايدر مان، سواء من الأجيال التي عايشت الأجزاء الثلاثة الأولى في بداية الألفية، ووصولا إلى المراهقين الحاليين. يتضح ذلك بجلاء حينما ينقذ أحد أبطال الفيلم حبيبة بطل آخر، في امتزاج مثير للانتباه بين حكايات ثلاث، وكأنهم جميعا نسخ متعددة من الشخصية نفسها، والروح نفسها.

إلى جانب ذلك، يولي الفيلم عناية كبرى للفكاهة، التي وُظِّفت لردم الفجوة العمرية بين سبايدر مان وجميع الشخصيات الأخرى في عالم مارفل السينمائي، ولتقيم ميزانا تكافُئِيّا بين النقلات الدرامية المتبعة، إذ تتوزع على أجزاء من الحوار، حتى تخفت في النهاية كلما ازدادت الأمور قتامة، لننتبه إلى أن لب السيناريو قائم في حقيقته على تعويذة النسيان.

ما الذي يمثله النسيان سوى ثقب تهوى فيه فرص ضائعة تُقايض بأخرى سانحة؟ ما يواجهه بيتر هو السؤال نفسه الذي واجهه جميع الأبطال الخارقين حول معنى أن تكون بطلا خارقا، لكن الفارق هنا أننا نراه في مرحلة حرجة من حياته، وهي مرحلة ما بعد التخرج من الثانوية. نرى منذ الوهلة الأولى حياته تتداعى إثر الكشف عن هويته، وكيف يعيقه ذلك عن دخول الجامعة. فكما أسس رايمي لوجهي شخصيته الأساسية وتتبع زلاتها ومساعيها بين عالمين، كذلك فعل واتس بشكل أشد مباشرة، بنزع قناع بطله أمام الملأ في ختام الجزء الثاني واستغلاله لذلك الحدث باعتباره مقدمة للجزء الحالي.

كان ذلك هو ما دفع بيتر للجوء إلى الساحر دكتور سترينج (بنديكت كامبرباتش) حتى يمحو بسحره ما علق في الذاكرة الجماعية عنه. يحرف بيتر التعويذة عن مسارها في المنتصف، مخافة السقوط من ذاكرة حبيبته إم جي وصديقه المقرب نيد أو العمة ماي (ماريسا تومي) وألا تجد الذكريات حارسها، ويسلب منه في النهاية كل شيء يحفل به.

لكن ذلك كله لا يعني أنه لم يكن من الممكن تقديم فيلم أكثر إحكاما في مدة أقل من 148 دقيقة، خاصة أن هذا الطول كشف الثقوب الواضحة في المعالجة، من مثل وجود دكتور سترينج الذي يبدو غير مبرر، وكأنه وجد ببساطة لتسهيل مكائد الحبكة دون الكشف عن علاقته ببيتر من الأساس، كما أن قبول سترينج مد يد العون إلى بيتر يتعارض تماما مع ملامح الشخص الحكيم التي طالما رسمته له مارفل.

علاوة على ذلك، ما من مبررات كافية لتبدل موقف بيتر إلى النقيض تجاه جَمْع الأشرار الذين عبروا من خلال ثقبه الزمني والسعي لإعادتهم إلى ديارهم، إلى قتاله في سبيل حصولهم على فرصة ثانية لأن قناعة عمته تتسق مع ذلك. لا يتخذ المرء موقفا راسخا كهذا دون مؤشرات وإرهاصات لم يسبق لها أن مُهد لها قبل ذلك الحين.

يستطرد واتس أيضا في رواية سرديات لم تكتمل، يضمها مع حكايته حين يلتقي أبطالها الثلاثة. ليُظهر لنا نُبل الألم في اتجاه والانقياد للغضب في اتجاه آخر، وكأنها مفاضلة تلزم بيتر باختيار إلام يرغب أن ينتهي به الحال. في أحد المشاهد القريبة من النهاية يخبر "ماجواير" بيتر غارفيلد أنه رائع، محاولا إقناعه بترديد ذلك: "أنت رائع، أريد أن أسمعك تقول ذلك"، لكن غارفيلد لا يفعل ذلك أبدا، وإن بدت في نظراته رغبة في قول تلك الكلمات وتصديقها. ليبسط اجتماع ثلاثتهم مساحة للفهم ولو لفترة وجيزة، وليدرك بيتر في النهاية أنه ربما ليس وحيدا تماما، كل ما عليه أن يتلفت حوله وسيرى العديد من الأوجه التي تستحق البطولة، ولكنها تختفي أيضا خلف القناع.

_______________________________________________________

المصادر:

  1. Stan Lee on how he created Spider-Man – BBC News
  2. Spider-Man
  3. المصدر السابق
  4. How Tobey Maguire’s Spider-Man Became A Classic | The Art Of Film
  5. Superhero Filmmaking: Spider-Man’s Sam Raimi and the POV Shot
المصدر : الجزيرة