شعار قسم ميدان

من فؤاد حداد إلى نجيب محفوظ.. كيف مر رمضان في ذاكرة الأدب العربي؟

وقت واحد من العام تكسو فيه الأنوار الضواحي والأقاليم، ويعدو الصغار بين الأحياء والحواري حاملين الفوانيس، وتُنصب الأسواق إلى مطلع الفجر، ويختلط الهواء بروائح زكية لأشهى الأطعمة من العصائد والحلوى، ثم يعلو صوت الشيخ محمد رفعت الرخيم يتلو آيات من الذكر الحكيم، تتبعه تواشيح النقشبندي العذبة التي تطيب لها القلوب. كل هذا وغيره من المعالم المميزة للشهر الكريم سجَّلته صفحات الأدب والرواية والشعر والسير، التي حفظت لنا عبق الشهر الكريم بين الأوراق المتآكلة والمطوية.

فؤاد حداد.. مسحراتي لكل الأزمان

سجَّل لنا الشاعر المصري "فؤاد حداد" في ديوانه "المسحراتي" هوية متجذرة في التراث الشعبي والإسلامي عُرفت قديما باسم فن "القومة". يتبدَّى ذلك في سكون الليل الطويل حين يغشى النعاس المدينة الساهرة، فتستفيق على دبيب رجل جوَّال يطوف في الأرجاء بطبلته وجلبابه الفضفاض وصوته الجهوري داعيا النائمين إلى النهوض لتناول السحور وتأدية صلاة الفجر. يحكي لنا حداد عن ارتباطه برمضان من خلال يوميات المسحراتي في مصر وأقاصيصه التي لا تنضب، دون أن يدري الشاعر أن لقب المسحراتي سيغدو لصيقا به، لما طرحه في كتابه من حكايا باتت عصية على النسيان.

"وأنا صنعتي مسحراتي في البلد جوال

حبيت ودبيت كما العاشق ليالي طوال

وكل شبر من بلدي حته من كَبدي، حتة من موال".

(من ديوان المسحراتي، فؤاد حداد)

فؤاد حداد

يكاد الطابع الاجتماعي والوطني أن يُغرق قصائد الديوان التي كُتبت بالعامية المصرية ويبتلعها كاملة، بيد أن أجزاء منها تشط عنه، لا يُلقي حداد لذلك بالا بقدر ما يُدقِّق في بناء نسق ثابت للقصيدة بدايته ونهايته مستمدة من العبارة الأثيرة "اصحى يا نايم وحِّد الدايم.. رمضان كريم" (1). بيد أن حداد كثيرا ما يثور في ديوانه على ما يحكم الموال (أحد أشكال الشعر العربي منذ القدم) من أنظمة القوافي، والعدد المحدد من الأبيات لكل قصيدة، مُفضِّلا أن يبقى فضاء شعره حرا، ذا وزن خفيف يهيم فيه إلى حيث يريد.

تقصر القصيدة أحيانا أو تطول وفقا لمضمونها (2)، كما تتنوع نبراتها، كتلك النبرة المشحونة التي تظهر في الحديث حين يخاطب فلاح سيدا إقطاعيا فيقول: "يا حضرة الباشا فاكر ياما سحرتك، ودمعي تحت القمر بالليل مسح حارتك"، كاشفا عن رياء الرجل الثري وزيفه وادعاءه ما ليس فيه من صلاح.

يتخذ حداد من رمضان أرضا انشقت منها شخصية المسحراتي التي تختزل عمقا سياسيا يبصر رمزياته المعنيون بها من عامة الناس في البيوت والحارات، والورش والمصانع والمدارس والجامعات والأرياف، والجنود المرابطون على الحدود، وهو ما ارتبط في الأذهان بالبرنامج الإذاعي والتلفزيوني "المسحراتي" حين قدَّم الفنان "سيد مكاوي" الشخصية في ثوب جديد من خلال تلحينه وغنائه لأشعار فؤاد حداد، ليُمسي صوته طقسا أساسيا مُحبَّبا عابرا للأجيال يدوي منذ الليلة الأخيرة من شعبان.

"يقيدني كل دمع أراه"

أعاد فؤاد حداد تجربته في الكتابة عن رمضان في ديوان "طيوف الجنة والكوثر على الطريق الرمضاني"، لكن القصائد هذه المرة جاءت بالفصحى، وكان لها سمت ديني، جعلت من حداد فيها أقرب إلى كونه في خلوة مع الله.

حوَّر حداد أسلوبه قليلا، مُشكِّلا الفهرس بتنسيق أقرب ما يكون إلى إمساكية رمضان التي نألفها. استعاض عن العنوان بجملة متواضعة هي: عناوين الأماكن والأيام، وقرَّر بأن المكان "على الطريق الرمضاني". تلا ذلك ترتيب 29 قصيدة بعدد أيام الشهر، رقَّمها ووضع لها مسمى الأناشيد وختمها بيوم الوقفة.

يواصل حداد نهجه في ثبات نمط البداية والنهاية، فيجعل من مطلع كل قصيدة آية قرآنية من سورة النور: "ألم تر أن الله يسبح له مَن في السماوات والأرض والطير صافات كلٌّ قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون"، ثم يُعبِّد الطريق بعبارة "يقول القلب السليم الفؤاد بن الحداد عبد الله" قبل أن يسترجع جزءا من الذكريات الممزوجة بالحكمة والسير التاريخية، لينطلق بعد ذلك بسلاسة بالنشيد المراد (3).

"يقول القلب السليم الفؤاد بن الحداد عبد الله: أحمد الله أني رأيت الشيخ عبد الفتاح ينمو النبات في أطراف صوته والبحر في أصوله، يطلع النهار يظل يطلع، فتتعالى أعناق الزهور في طلب الندى، تصل الأسطح النجوم.. والناس عنده وعندي اثنان: الصادقون والمشتاقون إلى الصدق، الطيبون والمتلهفون إلى الطيب"(4).

(طيوف الجنة والكوثر على الطريق الرمضاني)

في تلك الأثناء، يعرج مسحراتي فؤاد حداد على أحد الأحياء المصرية كحي خان الخليلي، ليختلط بالوفود هناك، من بين الزحام نميز أبطال أديب نوبل "نجيب محفوظ" المنتشرين في أرجاء الحي، تتقاطع الطرقات وإن لم يكن بينهم ميعاد أو نصيب للقاء.

قصيدة خان الخليلي من برنامج المسحراتي، غناء سيد مكاوي

"مسحراتي عدو الخريف

مـنـقـراتي بنغم ظريف

وإن كنت شايل خمسين سنة

لا ظهري مايل ولا انحنى

شفت الهوايل شفت الهنا

شفت ابتسامتك متلحنه

ارجع يا روحي على الغنا" (5)

نجيب محفوظ: حكايات تستعصي على النسيان

نجيب محفوظ

"شاء لي القدر أن أرى النور المبارك في ليلة القدر وأنا جالس على حجر أمي أتطلع إلى السماء! فتحت النافذة وأطل منها ضوء باهر طمس أضواء النجوم" (6).

(قلب الليل)

 

ينزل رمضان في عدة أعمال لنجيب محفوظ ليكون حدثا يستوقف شخوصه. ففي رائعته الثلاثية: بين القصرين، وقصر الشوق، والسكرية، ينبذ السيد أحمد عبد الجواد السبل التي تُفضي إلى المواخير والعبّارة حيث اعتاد قضاء سهراته الماجنة، لكن رمضان كان واضحا بشكل أكبر في رواية "قلب الليل"، إذ ازدحمت ليالي الشهر فيها بالطرب الديني، وأدنت إلى بطلها جعفر الراوي ذكرى بعيدة لأمه اختلج لها قلبه.

وفي روايته "خان الخليلي" يكون رمضان جزءا من النسيج الروائي، يبسط تأثيره على المكان والأحداث والشخصيات وتفاعلها مع بعضها بعضا (7). ويتطرق الأمر إلى درجة من العمق، حيث يخوض صاحب الشخصية الرئيسية أحمد عاكف، الموظف الأربعيني، جدالا مع والديه، حول حقوق الشهر كالكنافة والقطايف واللحوم التي يرى فيها أحمد كماليات يود الزهد عنها رغم اشتهائه لها؛ نظرا لغلاء الأسعار. يتفاوض أفراد العائلة حتى يُحسم الأمر: قليل من الصنوبر والزبيب لضرورتهما في الحشو، ونصف لفة قمر الدين لتغيير الريق، وليقنعوا من الكنافة بمرة واحدة خلال الشهر الكريم.

على هذا المنوال ينقل محفوظ أدق تفاصيل الأسرة المصرية، تنصرف الأم لتهيئة المطبخ، إذ إنه بحسبها، شهر المطبخ كما شهر الصيام، بينما يتذكر الأب أيام فتوته بالليل العامر بالسمار والمنشدين واللهو البريء واجتماعه بالأصدقاء والتسحر بالكوارع ولحم الرأس وتدخين البورى في مقهى الحسين والإنصات إلى أذان الشيخ علي محمود والمكوث حتى الصباح الباكر.

فيما يكون أحمد كمال أشد انشغالا بالحاضر، يخلق روتينا رمضانيا، يخصص فيه نصف وقته للمطالعة بعد الإفطار ليكون أشد تركيزا، والوقت الأكبر لارتياد مقهى الزهرة حيث يمضي وقته مع الرفاق، لما وجد في المعاشرة من لذة ليست دون القراءة والعزلة.

"‫وجاء مساء الرؤية، وانتظر الناس بعد الغروب يتساءلون، وعند العشي أضاءت مئذنة الحسين إيذانا بشهود الرؤية، وقد اجتزأوا بالإضاءة عن إطلاق المدافع لظروف الطوارئ، وازينت المئذنة بعقود المصابيح مرسلة على العالمين ضياء، فطاف بالحي وما حوله جماعات مهللة هاتفة "صيام صيام كما أمر قاضي الإسلام"، فقابلتها الغلمان بالهتاف والبنات بالزغاريد، وشاع السرور في الحي كأنما حمله الهواء الساري" (8).

(خان الخليلي)

يحيى حقي.. واقعية تبعث على الافتتان

يحيى حقي

"ولا ولوج إلى ساحة السعادة -في اعتقادي- إلا من أحد أبواب ثلاثة: الإيمان، والفن، والحب، لا شيء يشع بها مثل هذا الخشوع الذي أراه في المعابد" (9).

(قنديل أم هاشم)

تجري الأحداث تباعا في رواية "قنديل أم هاشم" ليحيى حقي. تُعلِّق أسرة كاملة من حي السيدة زينب أملا على ولدها إسماعيل، ويعيشون على الكفاف حتى يتسنى له دراسة الطب في أوروبا. غير أن إسماعيل يعود إنسانا آخر يثور على المعتقدات والمقدسات ويحنق على الوطن والأهل، لتنازعه نفسه للرحيل إلى حيث كان.

عند ذروة الأحداث، يرتبك المسير ويهتز اليقين، فيلوذ بالفرار من الدار بعد أن تسبب علاجه لفاطمة ابنة عمه بانطفاء آخر بصيص ضوء لديها. يقحم يحيى حقي شهر رمضان بعد الربع الأول من الرواية حتى يبطئ من ركض إسماعيل المحموم وتصفو خواطره السوداء، فيخفت رتم أحداث الرواية وتحل اللحظة التنويرية كسحابة صيف تظلله في عاصفة الهموم ويعي ما كان خافيا عنه في ليلة القدر.

يُلقي حقي بدلالات تدور جميعها في فلك واحد، فيشير إلى أهالي الحي بالأشباح الصفراء ذات العيون الذابلة. أفواج تزور مقام أم هاشم تستجدي منها أن تشفيها وتبتاع زيتا ساخنا من قنديلها للتبرك بها، وتقطره في مقلتيها. ثم نرى عيني فاطمة المجهدتين حمراوين كلما اشتد عليها الرمد. وأخيرا يجعل من إسماعيل طبيب عيون. تلك الإحالات المتكررة إلى الأعين والبصر تردنا إلى حقيقة يمررها لنا حقي وهي أن الجهل غشاوة، لكن العلم دون إيمان لا يمكن أن ينقذ أحدا؛ فعمى فاطمة دليل على عمى إسماعيل نفسه.

بهذا يكون رمضان هو فرصة إسماعيل للاهتداء والانسحاب من الظلام إلى النور، وهو ما عبّر عنه حقي بقوله: "وجاء رمضان فما خطر له أن يصوم. ابتدأ يطيل وقفته في الميدان ويتدبر: في الجو، في الهواء، في المخلوقات، في الجمادات كلها شيء جديد لم يكن فيها من قبل. كأن الوجود خلع ثوبه القديم، واكتسى جديدا، وعلا الكون جو هدنة بعد قتال عنيف… وحلَّت ليلة القدر فانتبه لها إسماعيل، ففي قلبه لذكراها حنين غريب، هي في ذهنه غرة بيضاء وسط سواد الليالي" لتزول الغمامة من على قلبه وعقله لما تُمثِّل له من رمضان.

من فيض الكريم

تنتهي رحلة إسماعيل وتستمر رحلة أخرى أكثر خصوصية لحقي، يوثقها كتابه "من فيض الكريم" بلغة تجمع بين العامية المصرية والفصحى. تتناول نظرة حقي في تلك المقالات المجمعة جانبين أحدهما عن المجتمع المصري إبان الستينيات والسبعينيات، والآخر هو تأملات دينية حول الشعائر الإسلامية من استطلاع الهلال والصيام والأعياد وموسم الحج والمولد النبوي وانقلاب أحوال الأشخاص في رمضان دون الشهور الأخرى، وعن ليلة القدر والعلاقة بين العبد وربه، والرابط بين قراءة القرآن وصلاة الفجر.

يصف ليلة رؤية الهلال قائلا: "ولم يكن هناك مذياع يجلب للناس أخبار الرؤية في منازلهم وهم معزولون عن الآخرين، متقوقعين على أنفسهم، بل كانت جموع الصبية قبل الكبار تتجمع خارج باب المحكمة الشرعية في سراي رياض باشا، حيث يجلس القاضي ينتظر وفود الرسل الذين خرجوا إلى مختلف المراصد والأماكن، لرصد قطعة من النور ليس في السماء ما هو أرشق منها ولا أجمل. وما إن تثبت الرؤية حتى تدار أكواب العصير على الحاضرين وسط هتاف الصبية: صيام صيام.. بذا حكم قاضي الإسلام" (10).

يُقدِّم الكتاب الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية السابق، جاء في افتتاحيته: "أشعرت فجأة وأنت تخالط الناس بأنك تعاني وحدة قاسية؟ الكلام من حولك مفهوم، ولكن بلا جدوى كأنهم عُمي وأنت تريد أن تسمع خبرا عن النور ممن رأى النور، وأيقنت أن لا أنس لك إلا إذا اهتديت لنفسك".

مقتطفات من سير ذاتية

بيد أن يحيى حقي ونجيب محفوظ وفؤاد حداد ليسوا وحدهم مَن جاهروا بمحبتهم للشهر الكريم، فلو أننا نحَّينا الجانب الروائي والشعري وانتقلنا إلى السيرة الذاتية لالتقينا بأدباء بحجم رضوى عاشور وأحمد خالد توفيق أفردوا مساحات للتحدث عن الشهر الفضيل. ليتمثَّل رمضان في كتاب "الصرخة" لرضوى عاشور كذكرى تحيا في وجدانها كل عام، تُعيِّن فيها جدتها الشهور بأسماء التقويم القبطي وما كانت على دراية به من الأشهر العربية: رجب وشعبان، والأهم رمضان.

"لم يكن رمضان جدتي شهرا من شهور السنة، بل حبيبا تنتظره على مدار العام. فإن هل هلاله تتحمم وتتطيب وترتدي الجديد من ثيابها وتُحدِّثه وتتواصل معه، وعند الفراق تودعه بالدموع. تُردِّد في أسى: يا من درى أشوفك تاني ولا لا. تبكي لرحيله وإن ابتهجت وهي جالسة أمام لجن العجين، تبسّه وتطريه وتقتطع منه كرات صغيرة تضغط عليها لتصير كل واحدة منها كحكة تصفّها في الصواني المستطيلة الكبيرة التي ستحملها دادة حميدة إلى الفرن. وبعد أول أيام العيد والأيام الستة البيض تبدأ دورة جديدة من الانتظار" (11).

(رضوى عاشور، الصرخة)

في المقابل، يتففن أحمد خالد توفيق في تصوير اتصال رمضان لديه بالأصوات والروائح؛ على رأس القائمة الأولى صوت الشيخ محمد رفعت المهيب وتواشيح النقشبندي التي استطاعت على حد تعبيره أن تكون هي صوت رمضان بجدارة، أو صوت تواشيح ما قبل صلاة الفجر، مع صوت مَن يقول بصوت عالٍ ممطوط: اللهم صلِّ على حضرة النبي.

يمكن بشيء من التحفظ أن يضيف أصواتا أخرى: "في طفولتي كان هناك ارتباط خاص بصوت القلي أو التحمير القادم من المطبخ والمرتبط بأمي. الأم المصرية المعتادة تقف في الحر وسط الأبخرة الخانقة، كأنها هكتور في حرب طروادة. وكانت تعترف لي كثيرا أنها تتلذذ جدا بهذا الشعور: أبناؤها صائمون ونائمون بانتظار المدفع بينما هي تحارب في المطبخ وحدها" (12).

أحمد خالد توفيق

ولأن أحمد خالد توفيق يولي عناية خاصة إلى الروائح، فإنه يستنشق تلك الروائج العذبة التي تعبق بها الأحياء الشعبية ويستمتع برائحة ماء الورد الذي يذوب في الماء المثلج ويُقدَّم للمصلين في المساجد بعد الصلاة، ورائحة الكنافة والقطائف وهما في مرحلة العجين الأولى، ثم السحور الذي تقاوم فيه النعاس بالقوة، والذي يختلط برائحة الشمع الذائب في فانوس جميل من الصفيح صنعه عم شحتة أو عم بيومي بيديه.

ويتحدث عن مسلسلات رمضان التي صارت جزءا لا يتجزأ منه بقوله: "نفس الجلسات لنفس الفنانين ونفس المقالب، أما المسلسلات فقدت مذاقها القديم وباتت الكثرة تغلب الشجاعة، لكنها اليوم تغلب التميز. مستحيل أن تتابع 9889798 مسلسلا كل يوم، وتحتفظ بسلامة عقلك وتوازنك النفسي. ماذا عن إضاءة التنعيم على وجه سميرة أحمد وفيفي عبده ونادية الجندي التي تُخفي التجاعيد وأي تعبير تمثيلي ممكن، والتمثيل غير الرديء غير الجيد الذي يفي بالحد الأدنى دون دراسة حقيقية للشخصية.. شخصية ايه؟ من الواضح أنهم قرأوا عبارات الحوار قبل التصوير بعشر دقائق، ومحمد صبحي الذي يعتقد أنه مصر فلم يعد ينطق إلا بالمواعظ والمُثل وهو ينظر حالما في عدسة الكاميرا، كأن الفنان الكبير يجب أن يقول كلاما كبيرا، وكأن أدوار الشر والخلل النفسي لا تليق به" (13)(14).

خيري شلبي.. لأن الهامش هو كل ما يهم أحيانا

خيري شلبي

يُحكى أن الكاتب المصري "خيري شلبي" كان ينظم الشعر، حتى التقى بـ"فؤاد حداد" واقترب منه فانصرف نحو القصة القصيرة والرواية، ليسير في ركاب مَن كتبوا عن رمضان في أعمال روائية له مثل "رحلات الطرشجي الحلوجي" و"بغلة العرش".

في ملحمته "رحلات الطرشجي الحلوجي" يتخذ "شلبي" من التاريخ المصري مادة حكايته المتخيلة. فالبطل الذي يدعو نفسه "ابن شلبي" هو ذاته الكاتب هنا. ينتقل بخفة بين الأمكنة والأزمنة التي يستهلّها بشهر رمضان، إذ يتلقى الراوي دعوة شخصية من المعز لدين الله الفاطمي لتناول طعام الإفطار على مائدته بمناسبة أول رمضان تشهده القاهرة، بحلول الوقت الذي يلبي فيه الدعوة يكون العصر الفاطمي قد ولَّى وحلَّ عهد آخر (15). هكذا يمتد به المآل ويتقلب من حال إلى آخر منتحلا شخوصا عديدة، مختبرا التفرقة والاستبداد وتغير الناس، ويبقى رمضان أقرب ما يكون إلى سماء تحوي ذلك كله.

يمر شلبي في روايته الأخرى "بغلة العرش" بليلة القدر، يعتمدها خطا محوريا تتفرع منه حلقات روايته، وتوازيها أسطورة ريفية متأصلة عن بغلة يرسلها الرب سرا إلى عبد من عباده في ليلة القدر مُحمَّلة بخراج الذهب ورأس لقتيل لا بد للموعود من تقبلها ومواراتها في عقر داره. تستتر الخرافة خلف معتقد شلبي بأن الثروة التي تهبط على صاحبها من السماء بين ليلة وضحاها لا تتحقق إلا بشبهة.

في حين لم يرَ أحد في القرية هذه البغلة أبدا، فإن أهل البلدة جميعهم يترقبون رمضان وليلته المباركة معولين على الأسطورة لانتشالهم من ظروفهم القاسية. لكن الخرافة لم تكن لتجد مناخا يعطيها مصداقية العقيدة لو لم يكن الواقع فاسدا بصورة مخيفة أشد خرفا من الخرافة نفسها، إذ إن التفاوت الطبقي الواسع ومظاهر الثراء الفاحش لفئة معينة من المجتمع دون مبرر منطقي مفهوم وانسحاق الطبقة الوسطى لا يمكن إرجاعها إلى أسباب واقعية على الإطلاق (16)(17).

في مونولوجات طويلة يحكي كل واحد من أهل القرية قصته ليُثبت جدارته بالثروة الموعودة والبغلة المحمَّلة بالذهب والابتلاء، ولكن العجب أن البغلة لا تصل أبدا إلا إلى اللصوص والمذنبين وقطاع الطرق في إسقاط سياسي واجتماعي (18). فهل تعمَّد شلبي الجمع بين تناقض الخرافة ومعاني الشهر الكريم وليلته المباركة ليردنا إلى اقتضاء أن نرفض كل منكر وظلم نراه، أن نغيره بأيدينا، أو بألستنا، فإن لم نستطع فبالقلب وذلك أضعف الإيمان؟ كما قال الحديث الشريف.

____________________________________

المصادر:

  1. في رحاب «حدّاد»: على جبل الشوق الرمضاني
  2. موال السحور
  3. في رحاب «حدّاد»: على جبل الشوق الرمضاني
  4. طيوف الجنة والكوثر على الطريق الرمضاني، فؤاد حداد
  5. ديوان المسحراتي، فؤاد حداد
  6. رواية قلب الليل، نجيب محفوظ. مكتبة مصر
  7. أحمد شلتوت لـ الجريدة•: عزلة المبدع فرصة للحوار مع الذات
  8. أحمد شلتوت لـ الجريدة•: عزلة المبدع فرصة للحوار مع الذات
  9. رواية خان الخليلي، نجيب محفوظ. دار الشروق
  10. رواية قنديل أم هاشم، يحيى حقي. دار المعارف بمصر
  11. كتاب من فيض الكريم، يحيى حقي
  12. المصدر السابق
  13. من فيض الكريم by يحيى حقي | Goodreads.
  14. الصرخة، رضوى عاشور. دار الشروق
  15. قهوة باليورانيوم، أحمد خالد توفيق، كيان للنشر
  16. المصدر السابق
  17. مرحب شهر الصوم || من كتابات د : أحمد خالد توفيق – انسانيات
  18. رحلات الطرشجي الحلوجي، خيري شلبي. مكتبة مدبولي
  19. بغلة العرش، خيري شلبي. الهيئة المصرية العامة للكتاب
  20. بغلة العرش
  21. المصدر السابق
المصدر : الجزيرة