الراب الفرنسي.. موسيقى الضواحي العربية تقود الثورة ضد عنصرية باريس

بمجرد أن تطأ قدمك إحدى ضواحي المدن الكبرى الفرنسية، سوف تجد الكثير من النظرات الفضولية والمُترقِّبة تحاول استبيان هويتك، إذا كنت ذا ملامح عربية مثل العديد من قاطني تلك المناطق، فلربما يكون الأمر أيسر بالنسبة إليك، أما إذا كنت من ذوي الملامح الأوروبية الواضحة، فإن الفضول سوف يزيد حينها من طرف الناظرين إليك. ولا عجب في ذلك، فقصص عداء فرنسا لأحياء ضواحيها المنبوذة والمهمشة أكثر من أن تُعَد، ودعنا هنا نذكر قصة رواها الكوميدي والرياضي الفرنسي "ماتياس كيفيجيي" (أو راغنار لو بريتون كما يُعرف في وسائل الإعلام)، الرجل الأبيض بالتعريف وفقا للتصورات النمطية الشائعة في باريس.

يحكي الكوميدي الفرنسي أن قناة تلفزيونية طلبت مساعدته لإعداد تقرير عن ضواحي المدن بحيث يكون إيجابيا هذه المرة، ويَعكِس صورة غير نمطية على نقيض الصور التي أدمن الإعلام الفرنسي تداولها. ومن ثمَّ زارت الصحفية عددا من المناطق، والتقت بعدد من الأشخاص "العاديين"، لكن سرعان ما ضاقت ذرعا بكل هذه الوجوه العادية، فأبدت رغبتها في إيجاد شباب يعفي لحيته ويلبس قميصا أبيض ويتبنى خطابا متطرفا يسيل له لعاب المشاهدين. ولذا سرعان ما لقَّن المُعِدُّون عددا من الشباب بضع كلمات كي يقولوها أمام الكاميرا نظير مبلغ مادي، وذلك من أجل مداعبة خيالات الجمهور.

يرى اليمين الفرنسي في ضواحي المدن وأهلها "مماليك" في وسط الجمهورية الفرنسية، بل ويذهب أنصار اليمين المتطرف إلى ما هو أبعد من ذلك واصفين إياهم بالدويلات التي تطبق الشريعة وتفرض القرآن والحجاب بديلا عن الدستور الفرنسي. بيد أن الواقع يقول إن الأمر أبسط من ذلك كله، فضواحي المدن عبارة عن "جيتوهات" (أحياء مُنعزلة ومُنكَفئة على ذاتها) كوَّنتها الدولة الفرنسية عَمْدا لإبقاء المهاجرين بعيدا عن مراكز المدن بالنظر إلى كونهم مقيمين مؤقتين. ولكن سرعان ما اتضح أن معظمهم أتى ليبقى في فرنسا، فكوَّنوا طبقات اجتماعية فُرِض عليها الانعزال رغم محاولتها الاندماج منذ عقود دون أن تنجح، وذلك لأن العنصرية والتمييز يُغلقان عليها الأبواب ويُصِرَّان على اختزالها في صورة نمطية تريح الجميع، بما في ذلك الدولة والإعلام وقطاع مُعتَبَر من الشعب الفرنسي "الأبيض".

حاولت هذه المجتمعات المُهمَّشة التعبير عن نفسها عبر الاندماج في نسيج المجتمع الفرنسي، فقد خرج من بينها موظفون ومهندسون وأطباء وسياسيون، لكنهم اعتُبِرُوا في أحسن الأحوال "حالات شاذة"، ولذا سعوا لإيجاد وسائل أخرى يُعبِّرون من خلالها عن أنفسهم، مثل الغضب أحيانا والفن أحيانا أخرى، أو موسيقى "الراب" التي تجمع بين الأمرين.

"الهيب هوب" للتربية والاحتجاج والتعليم

جوي ستار ، عضو فرقة الراب الفرنسية "NTM" ، يقدم مهرجان موسيقى 2010. (رويترز)

في 11 أغسطس/آب 1973، كانت أخت الموسيقي الجامايكي "كول هيرك"، المتخصص في تنظيم حفلات الدي جيه، تُعِد لحفلة خاصة بمدينة نيويورك التي انتقلت إليها حديثا، احتفالا بانتهاء السنة الدراسية. وقد شهدت هذه الحفلة مجموعة متنوِّعة من الفنون اقترحها هيرك على ضيوف السهرة، ومنها فقرة خاصة لنوع جديد من الغناء ذي الإيقاع السريع يُدعَى "الراب". وفي فترة زمنية وجيزة بدأ هذا الفن الجديد يكسب أرضية واسعة في المشهد الفني الأميركي، فأخذ العديد من الشباب المتحمس يُغني بالإيقاع السريع نفسه، مع كلمات تمزج بين العنفوان والاحتجاج والخيال، في مجتمع لم تزل تنهشه العنصرية.

بعد انتشاره في الولايات المتحدة في سبعينيات القرن الماضي، خرج الراب نحو بلدان أخرى، ووصل إلى فرنسا في الثمانينيات. ففي عام 1984، أطلقت قناة "تي إف 1" برنامجا بعنوان "هيب هوب" الذي أكَّد وصول ثقافة موسيقية جديدة ينضوي تحتها الراب إلى شريحة واسعة من المتابعين، ما جعلها تظهر على أهم قناة فرنسية آنذاك. وقد واصلت هذه الموسيقى الجديدة انتشارها في الملاهي الليلية أيضا، التي ظهر فيها الاختلاط العِرقي في فرنسا دون إشكال كبير، بجانب عدد من الإذاعات الخاصة أو صحافة "الدرجة الثانية" التي بدأت تتناقل أخبار "الراب".

مع دخول التسعينيات، وصل الراب إلى مُنعرَج مختلف، إذ بدأ يرتبط بضواحي المدن حيث ارتفاع معدلات الفقر والتهميش. وفي المقابل بات يُنظَر إلى هذه الموسيقى في الحضر الفرنسي على أنها أجنبية، ودخيلة نوعا ما على الموسيقى الفرنسية، كونها أتت من قلب المجتمعات الأفريقية-الأميركية (Afro-American)، علاوة على تبنيها في معظم الأحيان من طرف الشبيبة المهاجرة التي تعيش في الضواحي.

ومع ذلك، فقد تعزَّز نجاح "الراب" بظهور فِرَق مثل "إن تي إم" و"أساسِنز" ومغني راب منفردين مثل "تونتون ديفيد"، ونجح هذا اللون الموسيقي في انتزاع الاعتراف به على المستوى الثقافي بفعل بعض الأحداث السياسية التي عرفتها فرنسا، مثل الشغب الذي شهده عدد من المدن الفرنسية خلال تلك الفترة. وقد ساهم التناول الإعلامي لهذه الأحداث في زيادة ازدراء الضواحي، ونُظِر إلى الشاب القادم من هناك، والمنحدر من أصول مهاجرة، بوصفه نموذجا للمشاغب المُحتَج الذي يعادي الدولة. وبناء على ذلك، صار الراب أداة التعبير شبه الحصرية عند هذه الشريحة المُحبَطة.

رغم هذه الإشكالات السياسية والاجتماعية التي وجد الراب نفسه داخلها، فإن الفِرَق الموسيقية التي تبنَّت هذا النوع من الموسيقى واصلت الظهور والانتشار، وبحلول عام 1994، استفادت موسيقى الراب من القانون الجديد الذي فرض على الإذاعات ووسائل الإعلام الفرنسية بث 40% من الأغاني الفرنسية على الأقل، وذلك لمواجهة الاكتساح الموسيقي الأميركي والحفاظ على الهوية الفرنسية، فكان الراب أبرز المستفيدين لأن كلماته فرنسية 100% في الأخير. وفي عام 1996، أُعلن افتتاح إذاعة "سكاي روك" بوصفها أول إذاعة تخصص 80% من بثها للراب والموسيقى الشبابية.

رغم هذه النجاحات وكسب المساحات، فإن الراب ظل عدوا واضحا للتوجُّه الرسمي سياسيا وثقافيا، بل وأضحى حضور مغني الراب في البرامج التلفزيونية مناسبة ليواجهوا الأسئلة حول الأوضاع الاجتماعية في صفوف المهاجرين. وقد حاول بعضهم النأي بنفسه عن هذه النقاشات الدائرة، لكن الوضع كان أقوى من رغباتهم، فقد ارتبط فن الراب بالضواحي بوضوح، وبدأ بعض الناشطين يعملون على نشر "الراب" في الضواحي أكثر فأكثر بوصفه أداة "تربوية" تساهم في إبعاد الشباب عن الخمر والمخدرات والعنف المنتشر عادة في تلك المناطق.

السياسة.. فلسطين بداية

عكس العديد من الأنواع الموسيقية الأخرى التي يمكن إفراغها من أي مضمون سياسي، فإن الراب اشتهر بكونه موسيقى احتجاجية على الطريقة الاحتفالية. وبحسب "كريم حمُّو"، الباحث المختص بدراسة الراب، فإن أغانيه تأتي بحمولة ثقيلة من المشاعر والخبرات ووجهات النظر التي يتبناها شباب الضواحي وغالبيتهم من العرب المسلمين. ولذا ففي فرنسا، التي تُعَدُّ أهم دولة أوروبية مهتمة بموسيقى "الراب"، لم تكُن علاقة بعض المغنين والفِرَق بالدولة والسياسيين جيدة دائما، فلطالما اقترن ذكر أغاني الراب بالعنصرية (ضد ذوي البشرة البيضاء) ومعاداة السامية (عبر معاداة إسرائيل).

تُعَدُّ القضية الفلسطينية إحدى أهم القضايا التي تناولها "الراب الفرنسي"، مثل أغنية "رماة الحجارة" (Jeteur de pierres) على سبيل المثال لفرقة "سنايبر" عام 2005، التي تحدثت عن الوضع في فلسطين المحتلة والانتهاك الكبير للقوانين من طرف دولة الاحتلال الإسرائيلي. وسنجد أيضا فرقة "آي إيه إم" التي تحدثت في أغنية "كنت أستطيع أن أصدق" (J’aurais Pu Croire) عن انتهاكات سلطات الاحتلال، ثم فرقة "كالاش" التي حلمت في أغنيتها "محاربون بدون سلاح" (Guerriers Sans Armes) بفلسطين حرة وعلمانية.

وبعيدا عن الأستوديوهات الغنائية، نشط عدد من مغني الراب في إعلان مواقفهم الواضحة من القضية الفلسطينية، مثل المغني "روف" (Rohff) الذي دعا عبر صفحته على فيسبوك إلى التبرُّع لسكان غزة أثناء إحدى الحروب الإسرائيلية على القطاع، فيما بث المغني "براف" (Brav) كتابا مُصوَّرا نقل فيه تفاصيل رحلته التي زار فيها فلسطين، بخلاف مشاركة مغنين آخرين في المظاهرات التي شهدتها فرنسا دعما لفلسطين. ويُعلِّق المغني "مدين" (Médine)، أحد المغنين المعروفين بإعلان هويتهم الدينية الإسلامية، بالقول إن التغطية الإعلامية للقضية الفلسطينية غير دقيقة ولا تنقل الصورة كاملة، حيث يعتقد المشاهد غير المُطَّلِع أن الأمر يتعلق بحرب يتحمل الجميع فيها جزءا من المسؤولية، مضيفا: "لهذا السبب أتفهَّم أن يرغب عدد من الفنانين في التعبير عن وجهة نظر أكثر إنسانية وأكثر اتفاقا مع الوضع الحقيقي". غير أن هذه النسخة "المختلفة" للأحداث، البعيدة عن رأي الساسة ورجال الإعلام في فرنسا جعلت عددا من مغني الراب يدفعون أثمانا باهظة مقابل موقفهم الداعم لفلسطين.

موسيقى الهامش.. في مواجهة اليمين

أثارت التوجهات الأيديولوجية لبعض مغني الراب مشكلات عميقة مع عدد من السياسيين، وهي مشكلات وصلت إلى المحاكم في بعض الأحيان. ففي عام 2021 مثلا، شغلت قضيتان لهما علاقة بالراب الرأي العام الفرنسي، إحداهما للمُغني "مدين" نفسه، حيث أعلنت "أورور بيرجي"، النائبة عن حزب "الجمهورية إلى الأمام" (التسمية السابقة لحزب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون) دعمها لـ"فريديك فيدال"، وزيرة التعليم العالي السابقة، في خطوتها الداعية لفتح تحقيق حول انتشار المد "الإسلامي-اليساري" في حرم الجامعات الفرنسية. وقالت بيرجي: "لقد دَعَت المدرسة العليا للأساتذة مغني الراب الإسلامي مدين، الذي دعا سابقا لقتل العلمانيين. أليس من غير المعقول أن تعطي مؤسسة بهذا المستوى الكلمة لرجل يدعو لمجازر؟". بعد تصريحها مباشرة، رفع مَدين ذو الأصول الجزائرية دعوة قضائية ضد بيرجي متهما إياها بالتشهير.

أما القضية الثانية التي انفجرت بسبب "مغني راب" فخلقتها صفحات التواصل الاجتماعي للمنتخب الفرنسي لكرة القدم، بعد أن نشرت مقطعا مُسجَّلا قصيرا للاعبين الذين تم استدعاؤهم للمشاركة في كأس أمم أوروبا 2021، واختار مُصمم المقطع مقتطفا حصريا من إحدى أغاني مُغني الراب "يوسوفا". وقد أثار هذا الاختيار حفيظة عدد من سياسيي فرنسا ممن طالبوا الاتحاد الفرنسي لكرة القدم بالتدخل الفوري وتغيير المقطع. فقد قال "جوردان بارديلا"، الرئيس الحالي لحزب "التجمع الوطني" (الذي أسسته عائلة لوبان)، في تصريح له على إذاعة "فرانس آنفو" إن بعض كلمات أغاني "يوسوفا" تدعو إلى العنف، حيث سبق أن هدَّد بقتل إريك زِمُّور، المرشح اليميني للانتخابات الرئاسية السابقة. وأضاف صديق عائلة لوبان في انتقاده للمقطع الغنائي: "أنا مصدوم من اختيار شخص من هذا النوع لتمثيل فرنسا في كأس أمم أوروبا، لقد خضعنا بذلك لشريحة من الحثالة التي تعيش في فرنسا".

هذا النوع من القضايا، وإلى جانب الشق الأيديولوجي، يدعو أيضا إلى التفكير في قضية "الأحقية الاجتماعية" لهؤلاء المغنين الذين يبدو أنهم حتى الآن لم ينالوا الاعتراف الكامل، رغم شهرتهم وانتشارهم، بأن يكونوا واجهة لموسيقى البلاد التي ينتمون إليها. ويعلق "كريم حمُّو" بالقول إن صعود الأفكار القومية اليمينية استهدف الراب، حيث ساهم رجال السياسة في ارتفاع موجة العداء لهذه الموسيقى عبر نشر ثقافة الخوف من الأقليات الدينية والثقافية وسط الجماهير البيضاء التي تعيش على وقع تخويف مستمر من حدوث "الاستبدال الثقافي" (استبدال ثقافة المهاجرين للثقافة الفرنسية).

على ضوء ما سبق، تصبح مسألة التطبيع مع "الراب" بوصفه موسيقى قادمة من الهامش مثلها مثل التطبيع مع الأفكار التي يحملها سكان هذه المناطق، التي تنبذها النخبة الفرنسية بطبيعة الحال، لذلك لم يكن مستغربا أن تحاول هذه النخبة حصار هذا النوع من الموسيقى بكل طريقة ممكنة. ففي عام 1995 أعلن القضاء الفرنسي انتصار نقابة الشرطة في القضية التي رفعتها على فرقة "إن تي إم" بسبب أغنية لها حملت اسم "شرطة" وانتقدت الجهاز الأمني. وبعد الحكم مباشرة توالت القضايا ضد مغني الراب، ومرَّت بالمحطات نفسها: حملة إعلامية يقودها اليمين المتطرف، ثم رفع دعوة قضائية، ثم الدخول إلى قاعات المحاكم، ما يضر بالطبع بالمسيرة الفنية لمغني الراب.

يتجلى الصراع الواضح بين مغني الراب وخلفياتهم الثقافية المرتبطة بالضواحي ومجتمعات المهاجرين و"النخبة الفرنسية" الحاملة للواء القيم الفرنسية الخالصة في علاقة الكره الواضحة بين اليمين المتطرف وهؤلاء "الرابرز". ففي الفترة بين عامي 1997-2002، وفي الوقت الذي شهدت فيه فرنسا بعضا من الانفتاح الثقافي لشبابها، كان حزب الجبهة الوطنية بقيادة جون ماري لوبان يُحقق مكاسب سياسية كبيرة، حيث وصل لأول مرة في تاريخه إلى الدور الثاني للانتخابات الرئاسية عام 2002. وفي أثناء هذه الفترة، ظهرت ثقافة "الهيب بوب"، ومن ضمنها "الراب"، بوصفها سلاحا يواجه الأفكار اليمينية التي كادت تكتسح الساحة السياسية، وخصوصا الراب بمدينة مارسيليا الذي ناضل في وجه الانتصارات الانتخابية التي حققها اليمين المتطرف في مدن الجنوب بالتحديد، لذا لم يكن مستغربا أن يتخذ حزب الجبهة موقفا عدائيا من هذا اللون الموسيقي الذي بات جزءا من هوية المناهضين له في المقام الأول.

اتخذ "إريك زِمُّور" الموقف نفسه، وهو المرشح اليميني السابق للانتخابات الرئاسية الفرنسية، الذي قال خلال برنامج تلفزيوني عام 2009 إنه يعتبر "الراب" ثقافة موسيقية للأُمِّيين. وقد دخل زِمُّور في مشاحنة مع المغني "يوسوفا" الذي قال بدوره كلمات أثارت الكثير من الجدل: "سأدفع مبلغا من المال للشخص الذي سيتمكَّن من إسكات زِمُّور". وقد قرر زِمُّور بعد هذا الكلام رفع دعوى ضد مغني الراب، دون أن يتمكن من انتزاع إدانة القضاء الفرنسي لهذا الكلام. وقد تكرَّر الأمر ذاته مع زِمُّور على قناة "سي نيوز" عام 2018 حيث قال: "أنا متشبث بكلامي، (الراب) فن وضيع، لديّ الحق في أن أقول إنه سيئ".

قليل من "الراب الأليف" لا يضر

التغيير في توجهات الراب، وانتشاره أيضا في أوساط الشباب من مختلف الطبقات، شجَّع بعض رجال السياسة على التطبيع معه. (رويترز)

وإذا كان بعض السياسيين، وخصوصا من اليمين، يميلون إلى كراهية موسيقى الراب، فإن غيرهم من ساسة التيارات الأخرى يميلون إلى محاولة الاقتراب من هذه الثقافة الغنائية المنتشرة وسط الشباب لدواعٍ انتخابية. فقد واجه "الراب"، كما ذكرنا سابقا، صعوبة كبيرة لانتزاع الاعتراف المجتمعي، لكن الانتشار الكبير له، والنشاط الاقتصادي المرتبط به، جعل من دخوله الساحة الفنية أمرا لا مفر منه، وبحلول عام 2010 تم اعتماده في لائحة الفنون التي عقدت معها وزارة الثقافة الفرنسية اتفاقيات رعاية.

لكن فتح الأبواب أمام الراب لم يأتِ دون تضحيات، فقد تواءم الراب نفسه مع العديد من متطلبات الحضور في قلب الساحة الفنية الفرنسية، ومن ثمَّ ظهر نوع جديد من الراب، احتفالي أكثر، لا يهتم كثيرا بالقضايا السياسية، ويصفه المغنون "المناضلون" بأنه "راب اليمين" البعيد عن القضايا، إذ يعتمد على الجانب التجاري ويغذي النزعات الاستهلاكية عبر التفاخر بالسيارات الفارهة والقصور والنساء الحسناوات.

هذا التغيير في توجهات الراب، وانتشاره أيضا في أوساط الشباب من مختلف الطبقات وليس فقط شباب الضواحي، شجَّع بعض رجال السياسة على التطبيع معه، ولذلك نجد عددا من السياسيين، بما في ذلك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نفسه، يذكر أحد مغني الراب أو مقطعا شهيرا له في حملته الانتخابية، مستغلا هذا الأمر في مواجهة التيارات اليمينية التي لا تزال تُحرِّض على الراب ومغنيه وصناعه.

من خلال هذا النهج، يرغب السياسيون من أمثال ماكرون في تأكيد توجُّهاتهم الرامية لخدمة "الجميع" دون استثناء، جاعلين من "الراب" الذي ظهر في البداية احتجاجا على التهميش ثم على صعود اليمين أداة تواصل مع الشباب المُحتَج تقنعه بالمشاركة في الانتخابات والتصويت لليسار أو الوسط بدلا من اليمين "عدو الضواحي". وتُعَدُّ هذه مفارقة أخرى من مفارقات الراب الفرنسي، فرغم سعي هذا الفن الموسيقي للتخفف ولو قليلا من حمولات السياسة، يبدو أن السياسة نفسها تأبى الانفصال عنه، وأن كليهما سوف يواصلان السير معا خطوة بخطوة بلا نهاية.

المصدر : الجزيرة