أفول الليبرالية وصعود الجغرافيا السياسية.. كيف يُعيدنا اجتياح أوكرانيا إلى عالم الحرب الباردة؟

National flags wave over graves of Ukrainian soldiers killed during Joint Forces Operation in the country's eastern regions are seen damaged, as local orthodox priest says, by a shell of Russian tank, as Russia's attack on Ukraine continues, at a cemetery in Chernihiv, Ukraine April 6, 2022. REUTERS/Serhii Nuzhnenko

خلال الأسابيع الأولى من الحرب في أوكرانيا، وبعد تزايد الضغوط عليه من قِبَل الرأي العام الأميركي والغربي وعدد غير قليل من نواب الكونغرس، خرج الرئيس الأميركي "جو بايدن" بتصريح حاسم ومثير للجدل في الوقت نفسه قائلا: "إن الفكرة التي يُنادي بها البعض حول إرسال أسلحة هجومية وطائرات ودبابات وسفن حربية بها طواقم أميركية إلى أوكرانيا ليست مساعدة لأوكرانيا، هذه تُسمَّى حربا عالمية ثالثة، يجب أن نكون واضحين تماما حيال هذا الأمر".

 

على مدار تاريخ السياسة الخارجية الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية، لم تكن الولايات المتحدة قريبة من حرب عالمية مثل هذه منذ أزمة الصواريخ الكوبية في ستينيات القرن الماضي. وعلى النقيض، كان الاتحاد السوفيتي هو مَن يتمدَّد عسكريا حينها وينشر أسلحة ذات طابع هجومي في جزيرة كوبا قُرب الحدود الجنوبية للولايات المتحدة. وبعد ثلاثة عشر يوما اقترب فيهم العالم من شبح الحرب النووية، استطاعت إدارة كينيدي عقد صفقة سرية تُزيل بموجبها الولايات المتحدة صواريخها الموجودة في تركيا مقابل إزالة الصواريخ السوفيتية من كوبا.

 

منذ ذلك التاريخ، وباستثناء مواجهات بالوكالة بين الطرفين هنا وهناك، لم يقترب الطرفان من المواجهة العسكرية المفتوحة. بطبيعة الحال، يبدو عالم اليوم مختلفا تماما عن عالم الحرب الباردة القديم، من حيث موازين القوى، وطبيعة الأيديولوجيات المتصارعة، وبنية الاقتصاد العالمي، وهدف المواجهة نفسه بالمقارنة مع عالم الحرب الباردة، لا سيما من جانب الروس، فهُم اليوم أضعف بكثير مما كانوا عليه في زمن الاتحاد السوفيتي.

 

يبقى السؤال الأهم هنا: كيف تصاعدت الأمور مجددا لتصل إلى هذه الدرجة من الخطورة التي يعتقد معها البعض بعودة شبح الحرب النووية؟ على خلاف التحليلات السائدة، نذهب في هذا التقرير إلى أن المسؤولية الأساسية لاندلاع المواجهة الروسية الأوكرانية الأخيرة وانتشار شبح الحرب العالمية مجددا هو النخب السياسية الغربية الأميركية على وجه الخصوص، ونعني هنا النخب التي تَشكَّل وعيها السياسي وثقافتها السياسية في عالم ما بعد الحرب الباردة، العالم الأُحادي القطب الذي تقوده الولايات المتحدة والقيم الغربية الليبرالية دون منازع تقريبا.

A Ukraine supporter holds a sign and a Ukrainian flag on Park Avenue outside the offices of Philip Morris International Inc to protest their continued business in Russia during a demonstration in Manhattan, New York City

 

الليبرالية والجغرافيا السياسية.. الحرب الجديدة والأيديولوجيا

أحد تجليات مفاهيم الحرب الباردة في الصراع القائم حاليا على أرض أوكرانيا هو أنه رغم وقوع أحداثه في أوكرانيا، فإنها ليست الطرف المستهدَف جذريا في الصراع. وقد أوضحنا في "ميدان" أنه في عقل القادة الروس، يستهدف الهجوم بالأساس مجابهة التقدُّم الغربي تجاه الحدود الروسية في أول مواجهة من نوعها بين روسيا والغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة وحلف الناتو، منذ عقود.

 

جرت العادة في مثل تلك الصراعات السياسية والعسكرية أن تتجه الغالبية العظمى من التحليلات إلى الجغرافيا السياسية لفهم طبيعة النزاع وأسبابه وتداعياته، أما ما نذهب إليه هنا فهو أن هذا الجانب على أهميته لا يكشف الأبعاد الأوسع للأزمة في شرق أوروبا اليوم، التي لا نعلم إلى أي مدى ستتفاقم. ولذا، فإن المحاولة الأجدى هي فهم العنصر الأيديولوجي والقيم التي يتبنَّاها طرفا الصراع، وانعكاساتها على الجغرافيا وعلى الأرض.

 

لدى الليبرالية الغربية التي انتصرت في الحرب الباردة أساس أيديولوجي متعدد الملامح. أولا أنها أيديولوجيا فردانية؛ أي ترى الإنسانية كلها بوصفها مجموعة أفراد لهم حقوق في عقد اجتماعي قانوني حقوقي، وثانيا أن تلك الحقوق نظريا هي حقوق غير قابلة للتصرُّف فيها أو إلغائها، فهي لكل فرد في الإنسانية جمعاء، بغض النظر عن الثقافة المحلية أو الظروف السياسية لأي بلد. هذا الثنائي النظري لليبرالية الغربية يمنحها البُعد الأهم بوصفها فكرة سياسية وهو البُعد الكوني/العالمي، إذ تصير بذلك أيديولوجيا تبشيرية عالمية هدفها أن تصل إلى كل فرد في العالم.

 

على مدار تاريخ الولايات المتحدة القريب ، تبنَّت النخب السياسية الحاكمة الفلسفة الليبرالية التي باتت الفكرة المؤسِّسة لأميركا وما تُمثِّله للعالم، الأمر الذي تعزَّز بمرور الوقت أمام أعداء الولايات المتحدة بدءا من النازية والفاشية وصولا إلى الشيوعية. وكان التجلي المؤسسي لتلك الفلسفة هو الديمقراطية الليبرالية بوصفها نظاما سياسيا للحكم، وانعكس هذا الإيمان الليبرالي عبر الاعتقاد الجازم بأن نشر الديمقراطية الليبرالية يُحقِّق أهدافا مهمة في السياسة الخارجية الأميركية: أولا، حماية حقوق الإنسان في العالم، ونشر فكرة أن الحكومات الليبرالية وحدها هي التي تستطيع صيانة حقوق مواطنيها. ولذا كان على الولايات المتحدة أن تعمل على نشر الديمقراطية الليبرالية بوصفها نظاما للحكم في كل أنحاء العالم، الأمر الذي بدوره سيُحقِّق السلام الدولي، ففي عالم ليبرالي تماما، لن تتحارب الأنظمة الليبرالية الحقوقية بعضها مع بعض. وفي نهاية المطاف، ثمة هدف مهم آخر هو حماية الديمقراطية الليبرالية في الداخل الأميركي والغربي.

Pro-Ukrainian demonstrators display signs of protest as a pre-recorded video featuring Ukraine President Volodymyr Zelenskyy is played during a “Stand with Ukraine” rally at the Lincoln Memorial on the National Mall in Washington, U.S., March 27, 2022. REUTERS/Tom Brenner

في هذا العالم الليبرالي، تتراجع إلى الخلف لغة الجغرافيا السياسية والأمن القومي فضلا عن الثقافات والهويات المحلية، وفي المقابل تسود مصطلحات أكثر سلمية وعمومية مثل المجتمع الدولي والأسرة الدولية، ما يمتد إلى إعادة تعريف الأحلاف السياسية والأمنية. فحلف الناتو يُسمَّى بـ"مجتمع عبر الأطلسي" أو منتدى الأمن الأوروبي، وخلاف ذلك من تسميات بحيث يصبح توسيع الحلف نفسه أو نشر الديمقراطية الليبرالية في بلد بعينه توسيعا لمنتدى ما أو مجرد تنظيم للعلاقات داخل المجتمع الدولي أو الأوروبي.

 

هنا يظهر الخطاب الليبرالي بوصفه مُتحدِّثا باسم تلك العموميات نفسها، فغزو روسيا لأوكرانيا هو اختبار للإنسانية بتعبير "بوريس جونسون"، رئيس الوزراء البريطاني، لأن روسيا الدولة السلطوية تقف في صراع مع الإنسانية كلها وليس حلف الناتو فقط بهجومها على الديمقراطية الأوكرانية. وينطبق الأمر نفسه على خطاب بايدن الذي أكَّد فيه وقوف الولايات المتحدة مع أوكرانيا للدفاع عن النظام والأمن الدوليَّين، ويبدو هذا الخطاب وكأنه مُعلَّق في الهواء يحارب أعداء غير إنسانيين خارج حدود الجغرافيا السياسية.

 

يُعزِّز من تلك النظرة طبيعة النظام العالمي القائم منذ ثلاثة عقود، فهو نظام أُحادي القطب بشكل شبه تام. وبحسب أستاذ العلاقات الدولية البارز "جون مرشايمر"، لم تتحرَّك النخب الأميركية في عالم متعدد الأقطاب أو ثنائي القطب نحو تحقيق هيمنة للديمقراطية الليبرالية على العالم، لكنها في المقابل عملت في إطار منطق توازن القوى، ما يعني دمج لغة الأمن القومي والجغرافيا وحتى الثقافات والهويات المحلية داخل رؤيتها الليبرالية للسياسة الخارجية. من وجهة نظر هذه النخب، فإن الحرب الباردة انتهت، ومن ثمَّ صِرنا في عالم أحادي القطب منذ زمن، وهذا يغير كل شي تقريبا.

 

هل توقَّف الأميركيون عن النظر إلى الخريطة؟

RZESZOW, POLAND - MARCH 25: US President Joe Biden meets with the President of Poland, Andrzej Duda on March 25, 2022 in Rzeszow, Poland. U.S. President Joe Biden meets with NATO allies as they coordinate reaction to Russia's war in Ukraine, which has entered its second month. (Photo by Jeff J Mitchell/Getty Images)

بحكم النزعة التعميمية والكونية لليبرالية، فإنها مدفوعة بوازع أخلاقي وحقوقي ينزع دائما إلى الهيمنة والتمدد. فمنذ عهد إدارة الرئيس الأميركي السابق "بيل كلينتون"، سعت الإدارة الأميركية نحو مشروع هندسة اجتماعية على نطاق عالمي لسيادة القيم الليبرالية والنظام الديمقراطي الليبرالي، ليس فقط لأهداف سياسية ومصلحية بحتة، بل الأهم لأن الجغرافيا السياسية بوصفها مجال تحليل وبناء نظريات سياسية واقعية، بحسب المفكر الروسي "ألكسندر دوغين"، انحسرت بنهاية الحرب الباردة.

 

في أواخر التسعينيات، عندما فكَّرت إدارة كلينتون في توسيع الناتو ليشمل بولندا والمجر وجمهورية التشيك فقط، صرخ شيوخ السياسة الخارجية الأميركية معارضين تلك الخطوة، التي وصفها "جورج كينان"، الأب الروحي لسياسة الاحتواء الأميركية ضد الاتحاد السوفيتي، بأنها "خطأ إستراتيجي ذو أبعاد ملحمية محتملة". وبدوره أعلن "توماس فريدمان"، الكاتب الأميركي البارز، أنه "المشروع الأكثر سوءا في فترة ما بعد الحرب الباردة". وقد حذَّر "دانييل باتريك موينيهان"، العضو المرموق في مجلس الشيوخ الأميركي، قائلا: "ليس لدينا أي فكرة عما نحن بصدد الدخول فيه". كما أشار "جون لويس جاديس"، عميد مؤرخي الحرب الباردة في أميركا، إلى أن "المؤرخين -المثيرين للجدل في العادة- اتفقوا اتفاقا غير مسبوق مع استثناءات قليلة، على أن توسيع الناتو أمر غير مدروس، وسيئ التوقيت، وقبل كل شيء غير مناسب لحقائق عالم ما بعد الحرب الباردة".

 

تنتمي كل تلك الشخصيات إلى عالم الحرب الباردة، حيث الجغرافيا السياسية والخرائط ذات أهمية قصوى، لكن جميعهم خسر النقاش لصالح الجيل الجديد من السياسيين الليبراليين، ومن ثمَّ انضمت أول دفعة من دول شرق أوروبا إلى الناتو، وهي المجر وبولندا والتشيك. واستمر مشروع الهندسة الاجتماعية الليبرالي بعد ذلك، فبعد عقد ونصف انضمت دول البلطيق إستونيا ولاتفيا وليتوانيا بالإضافة إلى رومانيا وبلغاريا، رغم احتجاج حتى بعض صقور الحرب الباردة الأكثر عداء لروسيا مثل "هنري كيسنجر" و"بريجنسكي"، موضِّحين أن أوكرانيا خط أحمر بالنسبة لروسيا، وأن من الأفضل للأمن والسلم الدوليين أن تظل محايدة.

يتساءل المحلل السياسي "بيتر بينارد": لماذا لا يوجد أمثال كينان أو موينيهان أو كسينجر أو بريجنسكي اليوم في الولايات المتحدة؟ والإجابة جزئيا كما يراها بينارد تتعلَّق بالخبرة الحياتية، فقد بلغ هؤلاء الرجال سن الرشد خلال الحرب الباردة، ونتيجة لذلك رأوا من الطبيعي أن تمتلك روسيا مجال نفوذ خاصا بها. لقد كرهوا الطريقة التي تعامل بها القادة الروس بوحشية مع الشعوب الواقعة تحت سيطرتهم، لكنهم فهموا المخاوف التي جعلت روسيا في حاجة إلى منطقة محايدة عسكريا تحميها من حلف الناتو، والأهم من ذلك أنهم أدركوا أن الولايات المتحدة ليست على استعداد لمحاربة روسيا في حديقتها الخلفية، حتى لو دعمت الدول المحيطة بها بالسلاح والعقوبات.

 

شاهد رجال مثل كينان وكيسنجر وبريجنسكي رؤساء الولايات المتحدة يقفون مكتوفي الأيدي بينما سحقت القوات السوفيتية الانتفاضات الشعبية في المجر عام 1956، وتشيكوسلوفاكيا عام 1968، وبولندا عام 1981، ولذا أدركوا أن حدود القوة الأميركية تنحصر في الأراضي الواقعة بين البحر الأسود وبحر البلطيق.

 

يستكمل بينارد إجابته مُردفا أن على عكس صانعي السياسة الأميركية الذين بلغوا أشدهم خلال الحرب الباردة، نشأ معظم الممارسين والمعلقين اليوم، وحتى مستشاري الرئيس بايدن، وهم ينظرون إلى روسيا ليس بوصفها منافسا ولكن مصدر إزعاج ليس إلا. لقد دفعتهم خبراتهم السياسية إلى رؤية نفوذ روسيا، حتى على بلدان الاتحاد السوفيتي السابق، بأنه أمر غير طبيعي وغير مقبول، لأنها -وهم على حق- دولة سلطوية. لكن الأخطر من ذلك أن تجاربهم تلك دفعتهم إلى الاعتقاد بأن الولايات المتحدة يمكن أن تحرم روسيا من مثل هذا المجال بتكلفة ضئيلة. في المقابل، عندما نظر جورج كينان إلى أوروبا في التسعينيات، فقد شعر بالامتنان أن قبضة موسكو لم تعد تمتد حتى برلين. بالنسبة لخلفائه اليوم، فإنه أمر مثير للغضب أن يمتد نطاق نفوذ موسكو حتى دونباس ولوغانسك ومينسك، وهو رؤية ليبرالية بالطبع تفتقد إلى أي أسس منطقية تاريخية أو جغرافية.

 

من وجهة نظر ليبرالية صِرفة، كان جيل صانعي السياسة الأميركيين في الحرب الباردة بالكاد نموذجا أخلاقيا. لقد حمل كينان آراء عنصرية تجاه غير البيض، وبارك كسينجر الجرائم البشعة جراء انقلابات أميركا اللاتينية، وهم في هذا لا يختلفون حسب بعض نواب الكونغرس الليبراليين والتقدميين عن خصومهم في الاتحاد السوفيتي أو روسيا الاتحادية، لكن هؤلاء الساسة القدماء فهموا أن مشاركة العالم مع خصوم مؤثرين يفرض قيودا على الأيديولوجيا الليبرالية الأميركية ذاتها، وحدودا لا تستطيع أميركا التهرُّب منها من خلال فرض عقوبات لا نهاية لها، لقد تعلَّموا من خلال التجربة التاريخية الصعبة مجموعة من الدروس التي لا يبدو أن خلفاءهم قد تعلَّموها حتى اللحظة.

 

على ماذا يراهن الجيل الجديد؟

BRUSSELS, BELGIUM - MARCH 24: In this handout image provided by German Government Press Office (BPA), British Prime Minister Boris Johnson (L), German Chancellor Olaf Scholz (C), U.S. President Joe Biden (C-R) and Canada's Prime Minister Justin Trudeau (R) looks on during a video call with Volodymyr Zelensky, President of Ukraine, during a NATO summit on Russia's invasion of Ukraine, at the alliance's headquarters in Brussels, on March 24, 2022 in Brussels, Belgium. Heads of State and Government take part in the North Atlantic Council (NAC) Summit. They will discuss the consequences of President Putin's invasion of Ukraine and the role of China in the crisis. Then decide on the next steps to strengthen NATO's deterrence and defence. (Photo Denzel/Bundesregierung via Getty Images)

هنا نأتي للسؤال الأهم: هل كان جيل الساسة الجُدد في الولايات المتحدة يسعى إلى الحرب؟ بحسب جون مرشايمر، فإن العكس تماما هو الصحيح، لقد سعى قادة الغرب، والولايات المتحدة خصوصا، نحو إستراتيجية ليبرالية لتوسيع نطاق الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو من أجل نشر السلام، لأن الانضمام إلى الناتو والاتحاد الأوروبي عملية -في نظر قادة الحلف والاتحاد- لها معايير وترتيبات تتطلَّب أعواما من أجل تحقيقها، وتتعلق بطبيعة ومستوى الشفافية في إدارة الدولة والاقتصاد، ودور المجتمع المدني ومستوى الحريات في البلد، وطبيعة القوانين التي تُنظِّم العلاقة بين الحكومة والأفراد، فضلا عن حجم الناتج المحلي وحجم القيمة المضافة في الاقتصاد. إنها معايير اقتصادية وسياسية في مجملها تهدف إلى تحسين مستوى المعيشة في الدول لتكون مؤهَّلة للانضمام إلى الحلف والاتحاد.

 

كان طموح باراك أوباما، ومن قبله جورج بوش وكل دوائر صنع القرار في السياسة الخارجية الأميركية، واقعا في أسر هذا التصور الهادف لتعزيز القيم الليبرالية عالميا عبر ضم دول أوروبا الشرقية لمجتمع تحالف الأطلسي (Trans-Atlantic Community)، ومنح سكانها حريات أكبر وتحويل اقتصاداتهم إلى النمط الليبرالي. لقد ارتكز الرهان الأساسي هنا على أن نشر الديمقراطية الليبرالية سيجذب المزيد من الشعوب في أوروبا وربما روسيا نفسها، وذلك بالتزامن مع هيمنة نموذج الثورات البرتقالية في ذهن النخب الجديدة في الغرب، وليس نموذج الحرب الباردة. كان باراك أوباما صادقا إلى حدٍّ كبير وهو يخبر بوتين أن توسُّع الناتو ليس تهديدا لروسيا، لكنه كان غير محق، توسُّع الناتو شرق أوروبا كان تهديدا ليس لروسيا فقط ولكن لعالم ما بعد الحرب الباردة بأسره، على المستوى التاريخي والجغرافي الذي أغفله صُنَّاع القرار الليبراليون.

 

بدت أولى علامات فشل الرهان الليبرالي عام 2014، حين نظرت روسيا إلى التوسُّع السريع لحلف الناتو بتوجُّس شديد، مما ساهم في انجرافها إلى النقيض من الليبرالية: القومية المعادية للغرب والمزيد من العسكرة والاستبداد، وأخيرا استخدام القوة العسكرية وشن عملية عسكرية واسعة النطاق لأول مرة في أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية بالاستحواذ على شبه جزيرة القرم، مما أعاد العالم فجأة إلى حسابات الجغرافيا السياسية.

 

في هذه الأثناء يبدو النموذج الروسي متعثِّرا أيضا، فهو يخوض حربا برية واسعة وطويلة الأمد لأول مرة منذ حملة الشيشان، ويقوم بها في بلد ثقيل الوزن نسبيا، ويبدو أنه لم يُحقِّق أهدافه حتى الآن، بل يُعيد ترتيب قواته وإستراتيجيته باستمرار. في الأخير، وبغض النظر عن نجاح روسيا في تلك الحرب من عدمه، ستظل هنالك حقيقة جلية مؤثرة بالنسبة إلى النظام الدولي وإلى صُنَّاع القرار في دول الغرب، وهي أن الجغرافيا السياسية لم تمُت، وأن العالمية العمياء للأيديولوجيا الليبرالية كان عليها توخي الحذر بالنظر إلى أسفل قدميها في الأراضي التي هرولت كي تطأها على مدار الثلاثين عاما الماضية.

المصدر : الجزيرة