عبد الملك بن مروان.. المؤسس الثاني لدولة بني أمية

صورة تعبيرية الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان المصدر : ميدجيرني / الجزيرة
صورة تخيلية للخليفة الأموي عبد الملك بن مروان (ميدجيرني/الجزيرة)

عبد الملك بن مروان خامس خلفاء بني أمية، والمؤسس الثاني لدولتهم بعد معاوية بن أبي سفيان، ولد سنة 24هـ في المدينة المنورة وتفقه صغيرا وشابا وعُدّ من فقهاء المدينة البارزين.

كان داهية محنكا، وحكم أكثر من عقدين إبان صراعات كادت أن تعصف بالبيت الأموي؛ فثبّت أركان الدولة وقضى على المنافسين والثائرين، وخاض معارك مع الخوارج حتى شرّد أتباعَهم، وأطاح بعبد الله بن الزبير بعد أن دانت له كل الأمصار الإسلامية عدا الشام.

النشأة والتكوين

ولد عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص في المدينة المنورة عام 24هـ، وهو العام الذي تولى فيه عثمان بن عفان الخلافة، وبدأ فيه بتقريب بعض أقربائه وأبناء عمومته، واستدعاهم إلى المدينة ليكونوا سندا له وعونا في إدارة الحكم.

وكان عثمان محبا لأهله واصلا لرحمه، وكان يرى في مروان بن الحكم والد عبد الملك شابا ذكيا فجعله كاتبا له، وظل يرقى في مناصبه حتى صار أمين سره ورئيس ديوان الرسائل عنده، كما أتاحت هذه الصلة لمروان أن يطلع على شؤون الحكم ويفهم السياسة إبان توسع الدولة الإسلامية وانتشار فكرتها وجندها.

وشهد مروان -وابنه عبد الملك وكان في عمر العاشرة- أحداث الفتنة التي أودت بعثمان أواخر سنة 35هـ، وكان لمروان وبعض بني أمية ممن قربهم عثمان صلة بهذه الأحداث، إذ نقم الناس على عثمان لاستعماله بني عمومته على الناس ولاة وسادة.

وكان من تبعات هذه الفتنة أن خرج مروان وأسرته وكثير من بني أمية من المدينة إلى مكة، ومنها إلى البصرة، حيث موقعة الجمل التي شارك فيها مروان وجرح، ثم عاد إلى المدينة بعد أن صالح عليا واعتزل الخلاف الجاري بينه وبين معاوية.

وكان لهذا الحدث وما تبعه أثر بالغ في سياسة الأب وابنه لما وليا الخلافة بعد نحو 3 عقود، فقد روي أن عبد الملك قال لأحد محاوريه "ولم يخالف عثمانُ عمرَ بن الخطاب في شيء إلا باللين، ولو كان غلّظ عليهم جانبه كما غلّظ عليهم ابن الخطاب؛ ما نالوا منه ما نالوا".

وشغل عبد الملك في زمن معاوية رئاسة ديوان المدينة، خلفا للصحابي الجليل زيد بن ثابت، وشارك في واحدة من غزوات البحر التي كان معاوية يسيرها بين الفترة والأخرى، فاكتسب من هذه وتلك المعرفة الإدارية والسياسية والخبرة العسكرية والحربية.

وشهد قبل انتقال الحكم إلى أبيه موقعة الحرة التي كانت على يد يزيد بن معاوية سنة 63هـ، وكان لها أثر بالغ في نفسه، إذ حاصر أهلُ المدينة على إثرها بني أمية في دار مروان، وآذوهم ثم أخرجوهم إلى الشام ولم يعودوا إلا مع الجيش الذي أرسل به يزيد إلى المدينة، ليعيد إليها الهدوء بعد الاضطراب الذي أحدثته فيها سياسته.

ثم اضطروا إلى الخروج منها بعد وفاة يزيد واضطراب الأمر في المدينة، وإعلان عبد الله بن الزبير الدعوة لنفسه بالحجاز، وطلبه من واليه في المدينة إخراج بني أمية منها.

ووفرت المدينة النشأة العلمية المناسبة لعبد الملك بن مروان، لوجود علماء الصحابة وكبار التابعين فيها، فتلقى العلم على يد زيد بن ثابت وأبي هريرة وسمع من أبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله وأم سلمة وابن عمر وغيرهم من كبار الصحابة، كما تلقى العلم على يد والده مروان الذي كان من المعدودين فقها وعلما.

وروى عن عبد الملك رجاء بن حيوة والزهري ويونس بن ميسرة وإسماعيل بن عبيد الله، وقال عنه نافع "لقد رأيت المدينة وما بها شاب أشد تشميرا ولا أفقه ولا أنسك ولا أقرأ لكتاب الله من عبد الملك بن مروان".

وكان مضربا للمثل بفصاحته، قال الأصمعي "4 لم يلحنوا في جد ولا هزل؛ الشعبي وعبد الملك بن مروان والحجاج بن يوسف وابن القِرِّيِة".

الخلافة في آل مروان

ما إن توفي يزيد بن معاوية سنة 64هـ حتى اضطرب أمر الحكم في الدولة الإسلامية، فمن جهة كان ولي العهد معاوية بن يزيد صغيرا غير مطيق لأعباء الحكم وتكاليفه، وقد روي أنه كان زاهدا في الحكم مقبلا على شأن الآخرة.

ومن جهة أخرى؛ فإن النقمة على يزيد وسياسته كانت قد بلغت أوجها، خاصة بعد وقعة الحرة التي اقتحم فيها جيش يزيد المدينة المنورة، وسفك فيها من الدماء ما سفك، فضلا عما لصق به من دماء الحسين التي أراقها عامله على العراق.

وعكف ابن يزيد في بيته وقد ترك شأن الخلافة حتى توفي بعد نحو 3 أشهر من توليه الحكم، فاضطرب أمر المسلمين وبدأت القبائل تسعى لتنصيب أعيانها، غير أن الأمر انحصر بعد مدة يسيرة بين عبد الله بن الزبير ومنافسه مروان بن الحكم.

وأوشك الأمر أن يستحكم لعبد الله بن الزبير بعد أن رشحته الحجاز وبايعه العراق وخراسان، وأرسلت له مصر الموافقة كذلك، بينما رشحت الشام مروان بن الحكم وحسمت أمرها لصالحه بعد مشاورات طويلة ومعارك دامية، كانت أبرزها وأسخنها موقعة مرج راهط، التي أزاحت ابن الزبير عن الشام، ونصبت مروان حاكما عليها سنة 64هـ.

وكان لظهور أمر مروان في الشام أثر كبير في انحياز مصر إليه، فقد كاتبه أهلها سرا، فبعث بابنه عبد العزيز إليها، فلم يجد مقاومة تذكر فسلمت زمامها له.

وتوفي مروان بعد هذه الموقعة بـ8 أشهر، غير أنه قبل وفاته بشهرين كان قد طلب البيعة لابنيه من بعده؛ عبد الملك وعبد العزيز ونالها بموافقة أعيان الشام ومصر.

عبد الملك بن مروان.. الخليفة المتغلب

تسلم عبد الملك بن مروان الخلافة على الشام ومصر وحال الدولة الإسلامية مضطرب غاية الاضطراب؛ فمن جهة كانت أكثر الولايات الإسلامية بيد عبد الله بن الزبير، ومن جهة أخرى كان الخوارج قد استحكموا في إقليمين من أقاليم الدولة الإسلامية: أولهما الأحواز من بلاد فارس، والثاني شرق الجزيرة العربية مما يلي البحرين واليمامة.

Islamic Coin Islamic Coin, 696-7. Dimension: diameter: 20 mmweight: 4.45 gArtist Unknown. (Photo by Ashmolean Museum/Heritage Images/Getty Images)
عرّب الخليفة عبد الملك بن مروان العملة في عهده وخلال سنتين عمت العملة الجديدة العالم الإسلامي (غيتي)

ومن جهة ثالثة، كان العراق يغلي بما عرف بثورة التوابين، الذين استشعروا خذلانهم الحسين بن علي رضي الله عنه قبل سنوات قليلة وأرادوا الثأر له، فضلا عن اضطرابات أخرى وقعت بين القبائل القيسية منها والكلبية، وتمرد وثورات على الجانب الغربي من مقر خلافة ابن مروان في جبل لبنان وفي بقاع أخرى.

وكان مروان قد سيّر جيشا بقيادة عبيد الله بن زياد لإخضاع الشيعة المنضوين تحت لواء جيش التوابين، والمستترين بمحمد بن علي بن أبي طالب المعروف "بابن الحنفية"، وتغلب مروان عليهم في معركة عين الوردة (رأس العين شمال شرق سوريا حاليا) سنة 65هـ.

غير أن المختار بن أبي عبيد الثقفي استطاع أن يحشدهم لملاقاة جيش الأمويين، فحصلت معارك مختلفة بين الطرفين، وظهرت براعة عبد الملك الذي رأى الخلاف يتصاعد بين جيش ابن الزبير وجيوش المختار الثقفي، واشتعل الصراع بينهما وعبد الملك يرقب النتيجة التي آلت إلى انتصار ابن الزبير على المختار في الكوفة.

أدى خروج الثقفي من الميدان السياسي إلى انحصار المنافسة على الخلافة بين عبد الملك بن مروان وعبد الله بن الزبير، وكان عبد الملك يعلم أن قوة ابن الزبير تكمن في العراق، فسار بجيش كبير إلى العراق قاده بنفسه، وجعل على مقدمته أخاه محمد بن مروان، وعلى الميمنة عبد الله بن يزيد وعلى الميسرة خالد بن يزيد.

استخدم عبد الملك دهاءه قبل المواجهة؛ فكاتب زعماء العراق قبل مسيره، فانحاز إليه بعضهم، وأرسل إلى مصعب بن الزبير قائد جيوش أخيه عبد الله يدعوه إلى ترك القتال والانحياز إليه؛ فأبى مصعب.

ووقعت الواقعة بين الطرفين، وكان جيش مصعب ابن الزبير على العكس من جيش ابن مروان؛ متضعضا غير متماسك، فظل أهل العراق يتخلون عنه واحدا تلو الآخر حتى لم يبق معه إلا نفر قليل، غير أنه ثبت في وجه أعدائه حتى قُتل وحمل رأسه إلى عبد الملك بن مروان، الذي قال "واروه فقد كانت الحرمة بيننا قديمة، غير أن الملك عقيم".

وبهذا الانتصار انضمت العراق سنة 72هـ إلى عبد الملك، ولم يبق بيد عبد الله بن الزبير سوى الحجاز.

الحجاج.. سيف ابن مروان القاطع

لم يتريث عبد الملك بعد انتصاره الحاسم في العراق؛ فبادر إلى إرسال جيش كبير قوامه 20 ألف مقاتل بقيادة الحجاج بن يوسف الثقفي لمواجهة ابن الزبير في أرضه، فحاصر الحجاج مكة ونصب المجانيق، وألح برمي مكة والمسجد الحرام حتى تداعت الكعبة وسقطت بعض حجارتها، وقطع طرق التموين على أهلها حتى جاع الناس، فأخذوا ينحازون إلى جيش الحجاج طلبا للأمان.

دخل ابن الزبير على أمه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها يشكو إليها انفضاض الناس عنه، فقالت له: "أنت والله يا بني أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامضِ له، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكّن من رقبتك يتلعّب بها غلمان بني أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا، فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك، وأهلكت من قتل معك…"، فدنا منها وقبل رأسها، وقال "هذا والله رأيي، والذي قمت به داعيا إلى يومي هذا".

انتهى الحصار -الذي استمر 6 أشهر ونصف الشهر- بمقتل ابن الزبير ودخول جيش الحجاج مكة، وبهذا توحد العالم الإسلامي تحت راية عبد الملك بن مروان سنة 73 هـ.

عام الجماعة الثاني

توحد العالم الإسلامي تحت راية عبد الملك بن مروان، وبايعته الحجاز ووفدت إليه الوفود والزعماء، يبسطون أيديهم بالبيعة والرضا به خليفة على كل المسلمين.

ومن الذين بايعوه بعد سيطرته على الحجاز: عروة بن الزبير أخو عبد الله، وعبد الله بن عمر ومولاه نافع، ومحمد بن علي المعروف بابن الحنفية، والمهلب بن أبي صفرة القائد في حرب الخوارج، وسر عبد الملك لبيعته لما يعلم من وفور عقله وحنكته العسكرية.

وكلل عبد الملك هذه الوحدة تحت رايته بأن توجه إلى الحج عام 75هـ، وأقام مدة في مكة والمدينة.

ثم بدأ بعد ذلك القضاء على الخوارج في الإقليمين اللذين كانا تحت سيطرتهم في فارس وشرق الجزيرة العربية.

وكان من سياسة المهلب بن أبي صفرة الذي قاد الحرب على الخوارج أن يضطرهم إلى التقهقر بعيدا عن مواطنهم ومواردهم، ليضعفهم ويثير الخلاف بينهم، فتقاتلوا بينهم وضعفوا وتشتتوا، فانتهز الفرصة وقضى على الخوارج الأزارقة في معركة البستان سنة 77هـ.

وبنهاية هذا العام، امتدت دولة عبد الملك بن مروان واتسعت، بدءا من حدود نهر بلخ وجبال سجستان ومشارف الهند شرقا، إلى أواسط بلاد المغرب غربا، ومن بحر قزوين والبحر الأسود شمالا إلى حدود النوبة والسودان جنوبا.

الفتوحات شرقا وغربا

لم يكن لعبد الملك شأن في الفتوحات يضاهي ما كان لأسلافه، فكان مشغولا أكثر من نصف مدة حكمه في توحيد البلاد تحت رايته، ورغم ذلك فإنه وجّه الجيش الإسلامي لفتح بلاد المغرب الأقصى، بدءا من برقة وطرابلس إلى أفريقية (تونس)، وصولا إلى المغرب الأقصى.

ومن جهة أخرى؛ استغل الروم انشغال عبد الملك بالقضاء على المنافسين وإخماد ما ثار من تمرد، فبدؤوا بتحريك عناصر موالية لهم في جبل لبنان وإثارة الاضطرابات على الحدود الشمالية، كما أنهم أغاروا على مواقع صارت تحت سيطرة المسلمين في شمال أفريقيا، فلجأ عبد الملك إلى السياسة بعد أن دخل في مواجهة مع الجراجمة المسيحيين في لبنان، وبدأ في مفاوضات مع ملك الروم.

وتوصل إلى عقد معاهدة معه رضي فيها أن يدفع ألف دينار كل جمعة، أملا في أن ينهي صراعه مع المنافسين داخل الدولة الإسلامية، ليلتفت إلى أعدائه النصارى، وفي مقابل هذا المبلغ اشترط على الروم أن ينقلوا الجراجمة من لبنان إلى البلقان فأخمد الثورة المشتعلة على الغرب من عاصمة دولته.

وظلت هذه المعاهدة سارية 3 سنوات حتى استطاع أن يقضي على منافسيه ويتفرغ للروم بعد ذلك.

وبدأ التوغل في الأراضي البيزنطية القريبة، فكانت الصوائف والشواتي تخرج بانتظام للإغارة على أراضي العدو بقيادة محمد بن مروان أخي عبد الملك، ثم ابنه عبد الله بن عبد الملك، وظلت مستمرة حتى بلغت ذروتها عام 99هـ، في محاولة لحصار القسطنطينية.

الإصلاحات في عهد عبد الملك

كان لعبد الملك بن مروان اهتمام بالشؤون الإدارية للبلاد، ومن أبرز آثاره الإدارية تعريب العملة وتعريب الدواوين.

وكانت الدولة الإسلامية منذ نشأتها حتى عهد عبد الملك تتعامل بالعملة الأجنبية، وذلك استمرارا على ما كان عليه العرب في الجاهلية أيام تجارتهم مع الدول المجاورة لهم، وكانت العملات الأجنبية متوفرة حتى انتهت دولة الفرس، فدخل بذلك على عملتهم الغش والتزييف، مما اضطر عبد الملك إلى أن يأمر باتخاذ دار لضرب العملة في دمشق والكوفة سنة 74هـ، وخلال عامين كانت العملة الإسلامية عمت جميع الأقطار الإسلامية.

ثم أصدر أمرا بتعريب الدواوين التي كانت تستخدم اللغات الأجنبية، وكان على الناس تعلم هذه اللغات لتيسير شؤون حياتهم الإدارية واليومية.

وعلى صعيد العمارة والبناء؛ أعاد عبد الملك بناء الكعبة بعد أن هدمها الحجاج عند حصار مكة على القواعد التي كانت عليها قبل بناء ابن الزبير لها، والذي اجتهد أن تكون حسب ما أراده النبي صلى الله عليه وسلم، حيث تقول عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ قَوْمَكِ اسْتَقْصَرُوا من بُنْيَانِ الْبَيْتِ، وَلَوْلاَ حَدَاثَةُ عَهْدِهِمْ بِالشِّرْكِ أَعَدْتُ ما تَرَكُوا منه، فَإِنْ بَدَا لِقَوْمِكِ من بَعْدِي أَنْ يَبْنُوهُ فَهَلُمِّي لأِرِيَكِ ما تَرَكُوا منه، فَأَرَاهَا قَرِيبًا من سَبْعَةِ أَذْرُع).

ومنها كذلك بناء قبة الصخرة بين عامي 66-72هـ، التي "لم يكن لها نظير على وجه الأرض بهجة ومنظرا، وكان فيها من الفصوص والجواهر والفسيفساء وغير ذلك شيء كثير، وأنواع باهرة"، كما قال ابن كثير.

وفاته

في رمضان من سنة 86هـ، اشتد على عبد الملك المرض، وكان يخاف الموت فيه، وقد روي عنه أنه قال "أخاف الموت في رمضان؛ ففيه ولدت وفيه فطمت وفيه جمعت القرآن (أي حفظته) وفيه بايع لي الناس".

فلما انقضى رمضان وكان مرضه قد خف، اطمأن للحياة من جديد، غير أن القدر عاجله في منتصف شوال، وتوفي وله من العمر 62 سنة، وظل على كرسي الحكم 21 عاما.

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية