جميلة بوحِيرد.. أيقونة الثورة الجزائرية

المناضلة جميلة بوحيرد الرئيسة الشرفية للجنة الشعبية الجزائرية لدعم غزة
جميلة بوحِيرد عملت على نقل القنابل إلى مجاهدي الثورة الجزائرية (الجزيرة)

جميلة بوحِيرد أيقونة النضال والمقاومة الثورية في الوطن العربي وفي الجزائر، من أبرز وجوه "معركة الجزائر"، طاردتها القوات الفرنسية واعتقلتها سنة 1957، عُذبت واستنطقت قبل محاكمة منحازة نطق فيها القاضي الفرنسي بوانار بحكم الإعدام في حقها.

أثارت قضيتها سخط العالم وتدخلت لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة من أجل تأجيل إعدامها وإلغائه فيما بعد، ألهمت جميلة بوحيرد الكثير من السينمائيين والشعراء والفنانين وقاموا بتصوير مقاومتها وشجاعتها من أجل الحرية والكرامة.

النشأة

ولدت جميلة بوحيرد سنة 1935 بالحي العتيق "القصبة" بالجزائر العاصمة، من أب جزائري وأُم تونسية، ولأنها البنت الوحيدة بين 5 شبان؛ حظيت باهتمام كبير من والدها، الذي كان مثقفا ورافضا للاستعمار الفرنسي، وعلمها حب الوطن، وزرع فيها روح المقاومة.

تعلمت في طفولتها الرقص الكلاسيكي وركوب الخيل، وبعد تعليمها المدرسي التحقت بمعهد للخياطة والتفصيل، وأتقنت فن التطريز، لكنها في عشرينياتها فضلت الالتحاق بالعمل النضالي، والانضمام إلى جبهة التحرير الوطني.

جميلة بوحِيرد (وسط) مع رندة (يمين) زوجة رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري وليلى خالد القيادية بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (الفرنسية)

النضال الثوري

انضمت جميلة بوحيرد إلى جبهة التحرير الوطني في نوفمبر/تشرين الثاني 1956، بمساعدة عمها الشهيد مصطفى بوحيرد، والذي عرفها بياسيف سعدي وعلي لابوانت، فتمكنت من كسب ثقتهما بسبب نشاط عمها ووطنية عائلتها.

وعندما توسعت دائرة الثورة الجزائرية وانتقلت من الجبال إلى المدن، وبدأت ما يعرف بـ"معركة الجزائر العاصمة"، أوكلت إلى بوحيرد مهمة الاتصال بصانعي القنابل ونقلها لمن سيكلف بوضعها في الأحياء الأوروبية بمدينة الجزائر.

وكانت جميلات الجزائر على غرار جميلة بوعزة وجميلة بوباشا وسامية لخضاري مكلفات بوضع القنابل في المقاهي والملاهي الفرنسية، وفقا لسياسة جبهة التحرير التي قررت آنذاك انتقال الحرب إلى المدن.

وعليه خلّفت تلك الهجمات الهلع والرعب في أوساط السكان، وأصبحت بذلك المجاهدة جميلة بوحيرد المطارَة الأهم، لعلاقتها المباشرة بلجنة التنسيق والتنفيذ التابعة لجبهة التحرير وقادة معركة الجزائر، فيما عُرف بـ"قضية القنابل".

جميلة بوحيرد أثناء إحدى زياراتها إلى دمشق سنة 2009 (الفرنسية)

المحاكمة

ألقي القبض على جميلة بوحيرد في شارع سفنكس بالقصبة في 9 أبريل/نيسان 1957، وهي تحاول إيصال عدد من الوثائق المهمة إلى ياسيف سعدي وعلي لابوانت، إذ تلقت وهي تهم بالهروب رصاصة في كتفها.

وعلى الرغم من جراحها فإنها صرخت حتى يتمكن زملاؤها من الهرب، ثم أسعفت وأجريت لها عملية جراحية على مستوى الصدر، لاستخراج الرصاصة التي تلقتها، وبدأت سلطات الاستعمار استجوابها وهي على سرير العمليات بالمستشفى.

واستمر استجوابها 17 يوما، وعذبت خلاله بالضرب واللكم والإهانة والكي بأسلاك الكهرباء في أنحاء مختلفة من جسدها، لكنها ظلت صامدة وصبورة وعازمة على الحفاظ على أسماء أصدقائها من المجاهدين والفدائيين.

وعند زيارة الطبيبة جانين بالخوجة لها؛ وجدت أن جرحها لم يلتئم بسبب التعذيب المستمر الذي ترك آثارا بارزة على جسدها.

وأوضحت جميلة فيما بعد هول التعذيب الذي تعرضت له قائلة "عُذبت بالكهرباء لـ3 أيام متواصلة، ووضعت الأسلاك الكهربائية في أعضائي التناسلية، وفي فتحتي أنفي، وفتحتي أذني، وتحت إبطي، وعلى ثديي اللذين طالهما الكي وفخذي، ولم يتوقف التعذيب حتى أغمي عليّ وصرت أهذي".

وكان جنود الاستعمار يريدون الوصول إلى مكان ياسيف سعدي وعلي لابوانت، لأنهم وجدوا بحوزتها خطابات موجهة إليهما من قيادة جبهة التحرير، كما كانوا يريدون معلومات حول القنابل ومكان تصنيعها ولكنها لم تقل شيئا.

ودفعهم عدم إفصاحها إلى اعتقال أخيها الصغير البالغ من العمر 11 سنة، وعذبوه ليخبرهم عن مكان رفاق أخته، كما اعتقلوا ابن أخ ياسيف سعدي، غير أن الصبيين لم يخبراهم بشيء رغم السجن والتعذيب.

وعُيّن الأستاذ جاك فيرجيس محاميا لجميلة بموجب القانون، وسارع هذا الأخير إلى الحصول على محضر أقوالها، الذي كان ملفقا وفيه اعتراف لها بصنع القنابل، وطلب الاجتماع بموكلته لكن طلبَه رُفض بسبب سجنها السري، كما قام القاضي بمضايقته وسبه وشتمه متهما إياه بالخيانة.

وقال القاضي معترضا على دفاع فيرجيس عن بوحيرد إن السلطات الفرنسية تلقي القبض على الأطباء الذين يعالجون الثوار، وكان الأولى أن تقبض على المحامين الذين يدافعون عنهم. وواصلت السلطات الفرنسية التضييق على المحامي بعد ذلك إلى حدود محاولة قتله.

وحددت جلسة الاستئناف في شهر سبتمبر/أيلول، إلا أنه وبسبب انفجار جديد في أحد الملاهي تم تقديم موعد الجلسة إلى تاريخ منتصف يوليو/تموز 1957.

وأضيفت "أدلة جديدة" في الملف، منها اعتراف بعض زملائها عليها بعد أن ألقي القبض عليهم، وحكم عليها بتهمة حيازة المفرقعات وتدمير المباني بها، والشروع في القتل والاشتراك في حوادث قتل، والانضمام إلى جماعة من القتلة.

وكان قاضي المحكمة روانار يسعى للحصول على حكم الإعدام قبل نهاية يوم 13 يوليو/تموز، حتى يحضر العرض العسكري ليوم 14 يوليو/تموز وهو العيد الوطني الفرنسي، ولكن حيثيات ملف "قضية القنابل" جعلت الأمر يستمر إلى 15 يوليو/تموز1957.

وفي البداية، طلب المحامون استبعاد التحقيقات التي قام بها فريق التحقيق العسكري الفرنسي نظرا لأساليبه القاسية، ولجوئه إلى التعذيب للحصول على أقوال المتهمين، ولكن الطلب قوبل بالرفض.

وعلى الرغم من تذكير المحامي جاك فيرجيس للقاضي روانار بأن ملف فرنسا سيدرس في لجنة حقوق الإنسان في سبتمبر/أيلول 1957، وأنه من الضروري ألا يتضمن حوادث تعذيب، فإن القاضي غضب من المحامي ومنعه من المرافعة.

ثم أصدر روانار حكم إعدام جميلة بوحيرد التي كانت تبلغ من العمر آنذاك 22 عاما، وعندما سمعت جميلة الحكم ضحكت فصرخ القاضي في وجهها "لا تضحكي في موقف الجد".

فكان ردها "أيها السادة، إنني أعلم أنكم ستحكمون عليّ بالإعدام، لأن أولئك الذين تخدمونهم يتشوقون لرؤية الدماء، ومع ذلك فأنا بريئة، لقد استندتم إلى محضر تحقيق وضعته الشرطة وقوات المظليين، وأخفيتم أصله الحقيقي إلى اليوم، والحقيقة أنني أحب بلدي وأريد له الحرية، ولهذا أؤيد كفاح جبهة التحرير الوطني".

ثم تابعت "تقتلوننا، لكن لا تنسوا أنكم بهذا تقتلون تقاليد الحرية، ولا تنسوا أنكم بهذا إنما تلطخون شرف بلادكم، ولا تنسوا أنكم لن تنجحوا أبدا في منع الجزائر من الحصول على استقلالها".

جميلة بوحِيرد أثناء مشاركتها في إحدى مظاهرات الحراك الشعبي الجزائري سنة 2019 (الفرنسية)

الاستنكار الدولي

بعد النطق بحكم الإعدام تم تحديد تاريخ 7 مارس/آذار 1958 موعدا لتنفيذه، ولكن برقيات الاستنكار ومواقف الرفض التي وصلت لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة وتدخل بعض القيادات العربية جعل فرنسا تتراجع عن الحكم وتعدله إلى السجن مدى الحياة.

ونقلت جميلة بوحيرد فيما بعد إلى السجون الفرنسية حيث قضت 3 سنوات قبل أن تنال الجزائر استقلالها في 5 يوليو/تموز 1962، لتعود إلى الجزائر وتتزوج من محاميها جاك فيرجيس.

وكان فيرجيس قد دافع عن عدد من مناضلي ثورة التحرير، وعيّنها الرئيس أحمد بن بلة رئيسة لاتحاد المرأة الجزائرية، غير أنها فضلت الاستقالة بعد عامين، وقررت الابتعاد نهائيا عن الساحة السياسية.

العودة لميدان الثورة

عادت جميلة بوحيرد بعد 67 عاما إلى مقاهي العاصمة لتحيي نضالا جديدا ضد الفساد في الجزائر، والتحقت بالشباب المتظاهرين ضد النظام السابق، محققة وعدا قطعته في عام 2013 بالخروج للشارع إن ترشح الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة لولاية رابعة.

ورافقت المتظاهرين في إطار ما عرف بـ"الحراك الجزائري" في 27 أبريل/نيسان 2019 الذين طالبوا برحيل بوتفليقة ورموز النظام، وخاطبتهم قائلة "لقد حان الوقت للقيام بدوركم يا شباب، عليكم بحماية الجزائر وتحريرها من أيادي الأفاعي والكائنات المميتة التي لم تعرف قيمة الجزائر".

كما عادت جميلة إلى الميدان للدفاع عن حق الطلبة في التظاهر السلمي، ورفضت بعد ذلك تلبية دعوة مبادرات الحوار لتقديم حلول للجزائر في مشاكلها الحالية، وبررت ذلك بضرورة إفساح مجال للشباب، وعبرت عن احتجاجها على سجن أخيها.

وقالت بوحيرد، في بيان ردت فيه على مبادرة التغيير، "لا حوار مع نظام يسجن أخي المجاهد لخضر بورقعة"، ونفت أي علاقة تربطها بمبادرات الحوار وأكدت تضامنها مع حراك الشعب سعيا للتحرر والديمقراطية.

جميلة بوحِيرد في الأدب والفنون

ألهمت قصة جميلة بوحيرد عددا من الفنانين والشعراء، حيث غنت لها المطربة اللبنانية فيروز أغنية بعنوان "رسالة إلى جميلة" من كلمات وتلحين الإخوة الرحباني.

وغنت لها الراحلة وردة الجزائرية أغنية بعنوان "كلنا جميلة"، من كلمات ميشال طعمه وألحان عفيف رضوان.

وأخرج المخرج المصري يوسف شاهين فيلما سينمائيا يروي قصتها وبطولاتها بعنوان "جميلة" من بطولة الفنانة ماجدة ورشدي أباظة ومحمود المليجي، وعرف نجاحا جماهيريا كبيرا.

لكن جميلة رفضت بعد ذلك إنتاج فيلم عن حياتها، وقالت معلقة على فيلم يوسف شاهين "لم أقل قط كلمة عن هذا الفيلم، لكن قلت إنهم أنتجوه وأنا في الزنزانة محكوم عليّ بالإعدام".

وأضافت "واليوم أراد فنانون جزائريون أن ينتجوا فيلما عني ولم أعطهم إجابة بالموافقة، فقالوا لي لكنك وافقت على تقديم فيلم عنك في مصر، فقلت لهم: لم أكن أستطيع أن أوافق أو أرفض لأنني كنت في الزنزانة محكوما عليّ بالإعدام، وأنتظر أن يأتي السجان عند كل فجر كي يقطعوا رأسي، فأين رأيت يوسف شاهين حتى أوافق؟".

أما في الأدب فكانت بوحيرد ملهمة لكثير من الشعراء والشاعرات من مختلف بلدان الوطن العربي، ومثلت رمزا للثورة والنضال، ومن أشهر الذين كتبوا عنها؛ الشاعر نزار قباني، إذ كتب قصيدة بعنوان "جميلة بوحيرد".

وكتب فيها الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي قصيدة بعنوان "قديستي"، وكتب نجيب سرور قصيدة "الجمعة الحزينة"؛ قاصدا الجمعة التي حكم فيها على جميلة بالإعدام، كما نظم عنها أيضا الشاعر العراقي بدر شاكر السيّاب.

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية