تحتضن معالم خلفها الرومان والقوط والمسلمون.. طليطلة مدينة الثقافات الثلاث

مدينة طليطلة، عاصمة إقليم "كاستيا لا منتشا" في إسبانيا. شكلت مركز حكم الرومان ثم القوط الغربيين في الجزيرة الأيبيرية. وتضم بعض أهم الآثار الإسلامية لأنها كانت حاضرة مهمة خلال الحكم الإسلامي للأندلس.

سقطت في يد الممالك المسيحية عام 1085، وصنفت اليونسكو العديد من معالمها على لائحة التراث العالمي.

الموقع الجغرافي

تقع مدينة طليطلة وسط إسبانيا على بعد نحو 75 كيلومترا جنوب مدريد، وتعد عاصمة إقليم "كاستيا لا منتشا".

تتميز بموقعها الإستراتيجي الحصين على ارتفاع 529 مترا فوق سطح البحر، ويحميها بشكل طبيعي نهر تاجة (تاخو في التسمية الإسبانية)، الذي يحيط بها من 3 جهات ويعبر شبه الجزيرة الأيبيرية وصولا إلى مصبه عند لشبونة في البرتغال.

تبلغ مساحتها 231.76 كيلومترا مربعا، وتمتاز بمناخ متوسط معتدل وصيف قصير دافئ، وشديد البرودة وغائم جزئيا شتاء، وتتراوح درجات الحرارة فيها بين 1 و34 درجة مئوية.

السكان

يناهز عدد سكان المدينة 85 ألفا، في حين تضم منطقتها الإدارية إجمالا 709 آلاف نسمة بحسب تقديرات المعهد الإسباني للإحصاء للعام 2021، وتبلغ فيها الكثافة السكانية 368.7 نسمة في الكيلومتر المربع.

الاقتصاد

عُرفت طليطلة تاريخيا بصناعة السيوف والآلات الحربية، لكن مردودية هذا القطاع تراجعت مع التطور الصناعي الحديث.

ومن بين 4683 شركة في المدينة اليوم تعمل 89.6% في قطاع الخدمات بما فيها السياحة، متبوعا بالبناء بنسبة 5.15% والصناعة بـ3.67% والزراعة بـ1.58%.

التاريخ

تعود آثار الاستيطان البشري المكتشفة في المدينة إلى العصر البرونزي، ومنها الموقع الأركيولوجي "سيرو ديلبو". وقد ورد أول ذكر لها في المصادر التاريخية على لسان المؤرخ الروماني تيتوس ليفيوس باسم "توليتوم"، ووصفها بأنها مدينة صغيرة وموقعها شديد التحصين. ويورد البكري أن اسمها اللاتيني "تولاتو" بمعنى "فرح ساكنوها".

حكم المدينة الرومان بعد أن غزاها قائدهم ماركوس فلافيوس نوبليور عام 193 قبل الميلاد، وتحولت في عهدهم إلى مركز سياسي وعسكري مهم وشهدت تطورا عمرانيا كبيرا.

وفي هذه الفترة شُيد فيها المسرح الكبير والقنطرة المشهورة. ومع ذلك لم يستقر ملك الرومان في طليطلة لمواجهته ثورات مستمرة انتهت بسيطرة القوط الغربيين.

وقد وحد ملوك القوط الغربيين أرجاء شبه الجزيرة الأيبيرية متخذين طليطلة مركزا لحكمهم، وذلك على يد الملك "ليوفيجيلدو" ثم ابنه "ريكاريدو"، وتحولت المدينة في هذه المرحلة إلى مركز إشعاع عم تأثيره إسبانيا.

دخل الفاتحون المسلمون المدينة عام 711م، وتصف المصادر العربية كثرة الغنائم التي حصلوا عليها، لكن مركز الجذب تحول تحت الحكم الإسلامي منها إلى قرطبة.

وخلال فترة الحكم الإسلامي عرفت طليطلة نهضة عمرانية وعلمية، كما احتضنت حضورا مهما للسكان "المستعربين"، وهي التسمية التي أُطلقت على المسيحيين المتحدثين بالعربية تحت الحكم الإسلامي.

واستمر حكم المسلمين في طليطلة قرابة 4 قرون، ولم تخل المدينة في أغلبها من الاضطرابات السياسية. ومع تداعي أركان الدولة الأموية التي كان مركزها قرطبة، ولا سيما بعد الحاجب الملك المنصور ابن أبي عامر (المتوفى عام 1002)، بدأ ملوك الطوائف الاستقلال كل بمنطقته.

وهكذا استقل بطليطلة أبو بكر بن يعيش الأسدي، ثم صارت بعد فتن وحروب عام 1036 لإسماعيل بن ذي النون (المتوفى عام 1043). ولم يستمر ملك طائفة آل ذي النون إلا يسيرا بعد ذلك، حيث عصفت به النزاعات الداخلية وضغوط القوى المسيحية المجاورة.

وفي خضم تلك النزاعات استعان يحيى بن إسماعيل بن ذي النون بملك قشتالة ألفونسو السادس على خصومه مقابل شروط قاسية وضرائب باهظة، وانتهت تلك المرحلة بسقوط المدينة عام 1085 بعد حصار شاق بيد ألفونسو الذي اتخذها قاعدة لملكه.

وكانت من أولى الحواضر الكبرى في الأندلس سقوطا في أيدي الممالك الكاثوليكية، وكان سقوطها نقطة متقدمة في الحروب ضد الحضور الإسلامي في الأندلس التي يسميها الإسبان "حروب الاسترداد".

تحولت طليطلة بعد سيطرة القشتاليين عليها إلى أحد أهم المراكز السياسية والاجتماعية في قشتالة. وشهدت تعايشا نسبيا بين الثقافات الإسلامية والمسيحية واليهودية.

وتمثل حركة الترجمة في طليطلة -التي ازدهرت في عهد ألفونسو العاشر الملقب بـ"الحكيم" في القرن الـ13- واحدة من أهم مظاهر التعايش التي مكنت من ترجمة نصوص فلسفية وعلمية عربية أسهمت في الازدهار العلمي في إسبانيا وفي أوروبا بشكل عام.

تراجعت الأهمية السياسية لمدينة طليطلة بعد أن قرر فيليب الثاني عام 1560 نقل العاصمة منها إلى مدريد، لكنها احتفظت بأهميتها الثقافية والحضارية، وتعد اليوم من أهم مراكز الجذب السياحي في إسبانيا.

وهي تضم بين جنباتها اليوم -وفقا لليونسكو- أكثر من ألفي سنة من التاريخ، بفضل تحفها الفنيّة التي تركتها حضارات مختلفة، واحتضانها على فترات مختلفة ومتداخلة الإسلام والمسيحية واليهوديّة.

المعالم

تضم طليطلة عددا كبيرا من المعالم الأثرية والتاريخية الشاهدة على تعاقب الحضارات، من أهمها الكاتدرائية التي توجد في موقع جامع المدينة في الفترة الإسلامية وتضم بعض عناصره وأساساته، وقد بدأ تشييدها عام 1226 واكتمل عام 1493.

كما توجد في مركز المدينة التاريخية كاتدرائية "سانتو تومي"، التي بُنيت في بداية القرن الـ14 الميلادي على أنقاض مسجد استُعمل كنسية بعد سقوط المدينة بأيدي القشتاليين.

وتتميز الكاتدرائية ببرجها المربع الذي يظهر خصائص العمارة المدجنة، وتوجد داخلها لوحة "دفن السيد أورغاث" المشهورة.

ومن معالمها المعمارية الأخرى "مسجد باب المردوم"، الذي يعود بناؤه إلى نحو ألف عام. وهو مسجد صغير في الأصل حُول إلى كنيسة بعد نحو قرنين من بنائه، وأضيفت إليه حنية كنسية وغير اسمه إلى "كنسية مسيح النور"، ويعد معلما مهما من معالم العمارة الإسلامية والمدجنة في إسبانيا.

وتظل القنطرة التي "يعجز الواصف عن وصفها" كما يقول ياقوت الحموي من أبرز تلك المعالم، وقد بُنيت في عهد الرومان ثم أعيد بناؤها أكثر من مرة بعد ذلك، وهي ترتفع فوق نهر تاجة وتحتفظ بملامح من العمارة الإسلامية والباروكية. كما تضم المدينة العديد من المكتبات والمتاحف والقصور التراثية.

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية