معاداة للديمقراطية أم تجسيد للحرية الاقتصادية؟ ما النيوليبرالية؟

لتحسين أموالك الشخصية، ستحتاج إلى تعلم وممارسة مجموعة متنوعة من المهارات
انتشار الفلسفة النيوليبرالية بين علماء الاقتصاد الأوروبيين بدأ عام 1930 (شترستوك)

لا معنى للحرية السياسة والاجتماعية ما لم ترافقها الحرية الاقتصادية أيضا، هكذا يدعم أنصار "النيوليبرالية" نهجهم الاقتصادي، ويعتقدون أنه طريق الخلاص للوصول إلى دولة "الرفاهية" التي يحلمون بها. لكن على الطرف الآخر، يجادل مناهضو هذا النهج بأنه معاد للديمقراطية، ويعزز الظلم الاجتماعي، ويزيد معدلات الفقر، ويوسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء.

ما النيوليبرالية؟

النيوليبرالية -أو "الليبرالية الجديدة" (Neoliberalism)- مصطلح ظهر للمرة الأولى في نهايات القرن الـ19، ويشير إلى فلسفة اقتصادية تدعم رأسمالية السوق الحرة والحد من تدخل الدولة في الاقتصاد.

بكلمات أيسر، تسعى النيوليبرالية إلى تحويل الهيمنة الاقتصادية من القطاع العام إلى القطاع الخاص، ويجادل النيوليبراليون بأنه في المجتمعات الحرة يمكن إحراز تقدم اجتماعي واقتصادي أكبر، عندما يقِل تدخل الحكومة في الاقتصاد إلى الحد الأدنى.

وترتبط النيوليبرالية بسياسات "التحرر الاقتصادي" التي تشمل:

  • إلغاء القيود التنظيمية على المعاملات التجارية (مثل إلغاء تحديد الحكومة للأسعار في الأسواق).
  • الحد من نفوذ الدولة في مجال الاقتصاد، وذلك عبر إجراءات مثل الخصخصة (التحول إلى القطاع الخاص)، والتقشف (وهو مصطلح يشير في علم الاقتصاد إلى السياسة الحكومية الهادفة إلى خفض الإنفاق، وغالبا ما يكون ذلك بتقليص الخدمات العامة).
  • خفض الإنفاق الحكومي وتقييد الملكيات العامة، بهدف زيادة دور القطاع الخاص في الاقتصاد والمجتمع.
  • خفض الضرائب.

فلسفة سياسية

والليبرالية -عموما- فلسفة سياسية تقوم على مبادئ الحرية والمساواة، وتنقسم إلى:

  • ليبرالية كلاسيكية تركز على مبدأ "الحرية" على وجه التحديد.
  • وليبرالية اجتماعية (أو اشتراكية يسارية) تعنى أكثر بالتركيز على مبدأ المساواة.

وبالعودة إلى الليبرالية الاقتصادية فهي تمثل السياسات الاقتصادية في الليبرالية الكلاسيكية، وتدعم ما يسمى "اقتصاد عدم التدخل" (أي عدم تدخل الدولة) وتدعم التجارة الحرة والمنافسة في الأسواق.

إذ يعتقد أنصار الليبرالية الاقتصادية أنه لا يمكن فصل الحرية السياسية والاجتماعية عن الحرية الاقتصادية، في حين يعارض أنصار الليبرالية الاجتماعية (الاشتراكية) مبدأ الليبرالية الاقتصادية، لأنه يدعم الرأسمالية ويركز على القطاع الخاص، بدلا من القطاع العام.

ظهر مصطلح النيوليبرالية للمرة الأولى عام 1889 عندما استخدمه الاقتصادي الفرنسي شارل جِيد. ونستطيع القول إن انتشار الفلسفة النيوليبرالية بدأ عام 1930 بين علماء الاقتصاد الأوروبيين، في محاولة منهم لإحياء وتجديد الأفكار الأساسية في الليبرالية الكلاسيكية مع تراجع شعبيتها بشكل واضح في أعقاب "الكساد العظيم" (Great Depression)‏.

وفترة الكساد العظيم هي أطول فترة ركود اقتصادي في تاريخ الغرب، حين انخفض الإنفاق الاستهلاكي بشكل كبير مقابل ارتفاع هائل في أسعار الأسهم وارتفاع معدلات البطالة والفقر، ونُظر إليه على أنه فشل واضح لسياسات الليبرالية الاقتصادية.

منذ ذلك الحين، استُخدم مصطلح النيوليبرالية بمعان مختلفة، فعلى سبيل المثال استخدمه باحثو العلوم الاجتماعية لوصف التحولات في المجتمع بسبب الإصلاحات القائمة في الأسواق لعقود بعد الكساد العظيم، لذلك صنفت النيوليبرالية آنذاك على أنها أيديولوجية غير متجانسة، لأن هذا المصطلح من الممكن أن يحمل معاني متعددة تبعا للسياق الذي يستخدم فيه.

ومع مطلع عام 1980، بدأ المصطلح يتخذ دلالات سلبية، وتم استخدامه بشكل أساسي من قبل منتقدي رأسمالية "عدم التدخل".

ولم يصبح مصطلح النيوليبرالية "عالميا" من حيث الشيوع والاستخدام حتى عام 1994، بعد مضي عامين على اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية، وهي اتفاقية تجارية تعرف باسم "نافتا" (NAFTA) عقدت بين الولايات المتحدة والمكسيك وكندا، وتهدف إلى تسهيل التعاملات التجارية بين هذه الدول الثلاث عن طريق رفع القيود التجارية وزيادة فرص الاستثمار.

وباتت النيوليبرالية تعرف على أنها امتداد الأسواق التنافسية إلى جميع مجالات الحياة بما في ذلك الاقتصاد والسياسة والمجتمع.

منتقدو النيوليبرالية يعيبون عليها دعم الرأسمالية والتركيز على القطاع الخاص بدلا من القطاع العام (شترستوك)

ما الفرق بين الليبرالية والنيوليبرالية؟

يبدو المصطلحان متشابهين للغاية، إذ إن كليهما يدعو إلى رأسمالية السوق الحرة.

ورغم أن النيوليبرالية تدعو أيضا إلى سياسة اقتصادية قائمة على "عدم التدخل" من الحكومات، فإنها تدعو كذلك إلى بناء دولة قوية تستطيع أن تحقق إصلاحات في السوق، إذ ستنعكس تلك الإصلاحات على جوانب المجتمع كافة.

وفي حين أن الليبرالية ترفض التدخل الحكومي تماما، فإن النيوليبرالية تسمح بتدخل الحكومة في الاقتصاد لكن في أماكن معينة فقط، وتؤمن بدور الحكومات في دعم الأسواق الحرة العالمية.

خصائص النيوليبرالية

يجادل مؤيدو النظام النيوليبرالي بأن مزيدا من الحرية الاقتصادية يعني بالضرورة مزيدا من التقدم الاقتصادي والاجتماعي للأفراد، وتشمل إيجابيات النيوليبرالية، حسب رأيهم، ما يلي:

  • تدعم المشاريع الحرة والمنافسة، وتلغي القيود التنظيمية، ومن ثم تزيد من المسؤولية الفردية.
  • تقلل سيطرة الحكومة على الصناعة وتعزز ملكية القطاع الخاص للأعمال التجارية والممتلكات.
  • تسهم في التخصيص الفعال للموارد.
  • تشجع العولمة بوصفها بديلا عن الأسواق شديدة التنظيم.
  • تساعد في خفض الإنفاق الحكومي، ومن ثم خفض الضرائب.
  • تؤدي إلى سيطرة حكومية أقل على النشاط الاقتصادي، مما يعني أداء أكثر فاعلية للاقتصاد.
  • تزيد من تأثير القطاع الخاص على الاقتصاد.
  • تضعف القوى النقابية وتؤمن مرونة أكبر في عمليات التوظيف.
  • تضمن تدخل الحكومة عند الحاجة للمساعدة في تنفيذ أنشطة السوق الحرة وضمان استدامتها وحمايتها.
الفلسفة النيوليبرالية تدعم المشاريع الحرة والمنافسة وتلغي القيود التنظيمية ومن ثم تزيد من المسؤولية الفردية (شترستوك)

انتقادات طالت النموذج النيوليبرالي

رغم أن النيوليبرالية قد تبدو نموذجا اقتصاديا واعدا، فإنها لا تخلو من الثغرات التي عرّضتها لكثير من الانتقادات، ومنها:

خصخصة الخدمات العامة

أحد الانتقادات الشائعة للنيوليبرالية هو أن الدعوة إلى نهج السوق الحرة في مجالات مثل الصحة والتعليم ليست سوى دعوات مضللة، لأن هذه الخدمات "عامة" بطبيعة الحال، وفي حين أن مضمار الصناعة والتجارة قائم على الربح بالدرجة الأولى، فإن تلبية الخدمات العامة ينبغي ألا تكون قائمة بدافع تحصيل الأرباح.

والأهم من ذلك، أن اعتماد نهج السوق الحرة في مجالي الصحة والتعليم قد يؤدي إلى زيادة عدم المساواة، فالأفراد غير القادرين على دفع تكاليف الصحة والتعليم لن يحصلوا على فرص متساوية للحصول على هذه الخدمات مثل أولئك الذين يمتلكون المال.

عدا عن ذلك، فإن خصخصة مجالات عامة -مثل الصحة والتعليم- ستؤدي إلى إضعاف الموارد الضرورية لصحة الاقتصاد على المدى الطويل.

تشجيع الاحتكار

تميل السياسات المرتبطة بالنيوليبرالية إلى تشجيع الاحتكار، مما يزيد من أرباح الشركات على حساب الفوائد التي تعود على المستهلكين.

ويجادل مناهضو النيوليبرالية بأن هذا النهج الاقتصادي يحول المواطنين إلى مستهلكين فقط، وبدلا من تعزيز المجتمعات، تعزز النيوليبرالية الأسواق، وتتركز القوة في أيدي المتحكمين فيها.

وهو ما ينجم عنه مجتمع مفكك تحتكر مصادر الإنتاج فيه نخبة رأس المال، بينما يشعر بقية المواطنين بالعجز الاقتصادي وعدم القدرة على الانخراط في مجتمع رأس المال.

النيوليبرالية تجعل المال مفتاح كل شيء ويتلاشى معها الاهتمام بالفرد ودوره في المجتمع (شترستوك)

زيادة عدم الاستقرار المالي

وخلافا لما يدعيه أنصار النيوليبرالية عادة، فإن إلغاء القيود التنظيمية على رأس المال لم يساعد بالضرورة في التنمية الاقتصادية، بل أدى تحرير رأس المال -عوضا عن ذلك- إلى زيادة عدم الاستقرار المالي.

في الواقع، يكشف تقرير -صادر عن صندوق النقد الدولي بشأن النيوليبرالية- عن أن الزيادة في تدفقات رأس المال كانت عاملا في زيادة مخاطر عدم الاستقرار الاقتصادي في العديد من الدول.

على سبيل المثال، يؤكد الاقتصاديان ديفيد هويل ومامادو ديالو أن السياسات النيوليبرالية أسهمت في زيادة عدم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في الولايات المتحدة، حيث يحصل حوالي 30% من العمال على أجور منخفضة، في حين تعاني 35% من القوى العاملة البطالة الجزئية.

عدم المساواة

وقد ثبت أن السياسات النيوليبرالية تزيد من عدم المساواة وتوسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء في المجتمع.

فالتفاوت الكبير في الثروة والدخل بين الأفراد في الدول التي تتبنى هذه السياسات قد تعوق آفاق النمو طويلة الأجل للاقتصاد، خاصة أن الذين يكسبون دخلا منخفضا لديهم قوة إنفاق محدودة، في حين أن الذين يصبحون أكثر ثراء لديهم ميل أعلى للادخار.

ووفقا لهذا السيناريو، لا تتدفق الثروة بالطريقة التي يتخيلها أنصار النيوليبرالية. وعلى سبيل المثال، جادل الاقتصادي دين بيكر، الباحث في مركز البحوث الاقتصادية والسياسية (CEPR)، بأن ارتفاع عدم المساواة في الولايات المتحدة كان بشكل أساسي بسبب سلسلة من خيارات السياسة النيوليبرالية، بما في ذلك التحيز المناهض للتضخم ومناهضة النقابات والتربح من قطاعات عامة، مثل قطاع الرعاية الصحية.

النيوليبرالية تركز على الكفاءة الاقتصادية وتدعو إلى الاستعاضة عن الشركات المملوكة للدولة بشركات خاصة (شترستوك)

العولمة وترسيخ الإمبريالية

تركز النيوليبرالية على الكفاءة الاقتصادية، وتدعو إلى الاستعاضة عن الشركات المملوكة للحكومة بشركات خاصة، الأمر الذي يشجع العولمة، وهو ما قد يحرم الدول ذات السيادة من الحق في تقرير المصير، وفقا لمعارضي النهج النيوليبرالي.

وفي حين أن الخصخصة قد تزيد الإنتاجية، فإن معارضي النيوليبرالية يؤكدون أن التحسن ربما لا يكون مستداما.

بالإضافة إلى ذلك، يضيف معارضو النيوليبرالية أنها معادية للديمقراطية، ويمكن أن تؤدي إلى الاستغلال والظلم الاجتماعي، وقد يكون الفقر أحد تبعاتها.

ويرى عدد من الباحثين أن النيوليبرالية تشجع أو تغطي الإمبريالية. على سبيل المثال، اتهمت روث بليكلي، أستاذة السياسة والعلاقات الدولية في جامعة شيفيلد، الولايات المتحدة وحلفاءها بالإرهاب والقتل الجماعي خلال فترة الحرب الباردة، كوسيلة لدعم وتعزيز توسع الرأسمالية والنيوليبرالية في الدول النامية.

ويجادل الجغرافي ديفيد هارفي بأن النيوليبرالية تشجع شكلا غير مباشر من الإمبريالية يركز على استخراج الموارد من البلدان النامية عبر مؤسسات دولية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي اللذين يقرضان الدول النامية.

وعادة ما تضع هذه المؤسسات الدولية شروطا للحصول على القروض تضمن الثراء للدول المتقدمة، وعلى سبيل المثال، للحصول على قرض يجب أن تكون لدى الدولة احتياطيات كافية من النقد الأجنبي، مما يدفعها إلى شراء سندات الخزانة الأميركية.

ويعلق الخبير الاقتصادي جوزيف ستيغليتز على ذلك بقوله "يا له من عالم غريب! تدعم فيه البلدان الفقيرة -في الواقع- تلك البلدان الغنية".

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية