العراق يطلق مبادرة كبرى لإحياء مخطوطاته الفريدة

يمتلك العراق ثروة كبيرة من المخطوطات التي تعود إلى عهود سابقة وتشمل شتى مناحي المعرفة (دار المخطوطات العراقية)

يزخر العراق بعدد كبير من المخطوطات الثمينة والنادرة، وقد تعرضت تلك التحف العلمية التاريخية للتلف والنهب والتهريب خلال سنوات الحروب والحصار والانفلات الأمني التي شهدتها البلاد خلال العقود الأخيرة الماضية.

وأطلقت دار المخطوطات العراقية التابعة لوزارة الثقافة والسياحة والآثار في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، مبادرة كبرى لبناء وتدريب قدرات الفرق الفنية للدار بمجال حفظ المخطوطات القيمة والكتب النادرة، لإنقاذ ما تبقى منها، ومحاولة استعادة بعض المفقودات.

العراق يزخر بعدد كبير من المخطوطات الثمينة والنادرة وتصل أعدادها إلى عشرات الآلاف (دار المخطوطات العراقية)

كنوز ثمينة

وأنشئت دار المخطوطات العراقية بمستوى شعبة صغيرة عام 1940، وهي اليوم بمستوى دائرة عامة تضم 4 أقسام تعمل على الفهرسة والتصوير والخزن، والترميم والصيانة، وفق مدير عام دار المخطوطات العراقية الدكتور أحمد كريم العلياوي.

مدير دار المخطوطات العراقية لفت إلى أن الدار تعمل على التعاون مع جهات عراقية ودولية لإنجاز المبادرة (دار المخطوطات)

ويؤكد العلياوي -للجزيرة نت- بأن دائرة المخطوطات العراقية تمتلك نحو 47 ألف مخطوطة، تتضمن مختلف اللغات والموضوعات، وهي تمتد لأكثر من ألف عام، في تصنيفات مهمة وقيمة، فضلا عن الرقع الخطية المكتوبة بأيدي كبار الخطاطين العراقيين والأجانب.

ويكشف مدير الدار عن وجود نوادر وكنوز ثمينة في خزائن دائرة المخطوطات، ومعظمها كتبت باللغة العربية، والفارسية، والتركية، والأوردية، وكذلك الكردية، والألمانية، والفرنسية، والإنجليزية، والعبرية، وهناك مجموعة قليلة بلغات أخرى.

توقيع مذكرة تعاون بين رئيس هيئة الآثار العراقية (يسار) ومستشار السفارة الفرنسية ببغداد للنهوض بعمل الدار (دار المخطوطات)

المبادرة الكبرى

ويشير العلياوي إلى أن إطلاق المبادرة الكبرى لإحياء المخطوطات جاء بعد عام ونصف من العمل والتعاون مع فريق متخصص ومجموعة من اللجان، وتم وضع خطة إستراتيجية لاستكشاف واقع حال الدار على المستوى الإداري وعلى المستوى الفني والتقني، كذلك مراجعة ما تحتاجه هذه المخطوطات من حماية وصيانة وترميم.

ويبين أن أبرز الاحتياجات تمثلت في تناقص الكوادر المتخصصة والخبرات اللازمة من أجل الصيانة والترميم وكذلك على مستوى الفهرسة، وعدم توفر الأجهزة الخاصة بالتصوير الرقمي الذي لا بد منه من أجل توفير نسخة رقمية من هذه المخطوطات.

وتستهدف المبادرة -وفق العلياوي- إلى تفعيل النشاط المتخصص في هذا المجال لاستقطاب الباحثين والخبرات الدولية، وكذلك توفير الدعم اللازم في هذا المجال على المستوى الدعم المالي والدعم الفني.

العلياوي مدير عام دار المخطوطات العراقية أكد أن المخطوطات تحتاج لتصوير رقمي ملون دقيق وحفظ وأرشفة خاصين (الجزيرة)

وينوه إلى أن المخطوطات العراقية بحاجة إلى تصوير رقمي ملون يمتاز بالدقة وإمكانية الحفظ في أرشفة رقمية خاصة، والهدف الأول من المبادرة هو رقمنة المخطوطات وتخليدها عبر الأزمنة، لأن الظروف غير مضمونة على مستوى الحماية للنسخ الأصلية.

ويؤكد مدير دار المخطوطات على التعاون مع جهات عراقية ودولية لإنجاز هذه المبادرة، والاستفادة من تجارب الدول الأخرى في هذا المجال، لافتا إلى أن دار المخطوطات بدأت تأخذ حيزا كبيرا في الدوائر الثقافية والتراثية في العراق والوطن العربي وعلى المستوى الدولي.

ويطمح العلياوي في توسيع هذه المبادرة لتشمل تشخيص المخطوطات المسروقة والمفقودة بسبب الظروف التي مرت بها البلاد، مؤكدا أن هناك جهدا وتنسيقا مع المحافظات العراقية من أجل الحفاظ على المخطوطات الموجودة.

المخطوطات شملت مجالات واسعة منها الفقه وعلوم القرآن والفلسفة والعقائد واللغة وعلومها والطب وغيرها (دار المخطوطات)

هوية الأمة

ويقول الباحث في تاريخ العراق الدكتور جمال هاشم الذويب، إن العراق يمتلك ثروة كبيرة من المخطوطات التي تعود إلى العهود الأموية والعباسية وما بعدها، وتشمل شتى مناحي المعرفة.

ويبين الذويب -خلال حديثه للجزيرة نت- أن الكثير من هذه المخطوطات تعرضت إلى الإهمال والنهب والتهريب لا سيما المخطوطات الثمينة غير المحققة، وبالتالي تعرض ما تبقى من المخطوطات في الدار الوطنية إلى التلف؛ بسبب سوء التخزين.

ويتوقع الذويب أن مبادرة إحياء المخطوطات ستحافظ على هذه الثروة التي تمثل هوية الأمة وتراثها، وحماية هذا الإرث من الاختراق الغربي وغيره.

ويشدد الباحث على ضرورة الحفاظ على هذه الثروة، ووضعها بين أيدي طلبة العلم لتحقيقها ونشرها بهدف إطلاع الأجيال الجديدة على مدى تقدم الأمة في تلك الفترة.

توقيع مذكرة تعاون بين رئيس هيئة الآثار العراقية ومستشار السفارة الفرنسية ببغداد للنهوض بعمل الدار (دار المخطوطات)

ويحذر الذويب من أنه في حال استمرار إهمال هذه المخطوطات فإن البلاد ستفقد هذه الثروة الكبيرة خلال سنوات قليلة، وبالتالي ستُحرم الأجيال من تراث غني يمتد لأكثر من ألف عام.

أهمية تاريخية

وتعود الأهمية التاريخية لهذه المخطوطات لكونها إرثا عالميا باعتبارها مكتبة موسوعية حوت المخطوطات بخطوط المؤلفين والمصنفين وكذلك المخطوطات الخزائنية للسلاطين والأمراء، وفق رئيس الهيئة العامة للآثار والتراث الدكتور ليث مجيد حسين.

رئيس الهيئة العامة للآثار والتراث الدكتور ليث مجيد حسين: المخطوطات حوت تنوعا موضوعيا وماديا (الجزيرة)

ويوضح حسين -في حديثه للجزيرة نت- أن دار المخطوطات العراقية تحظى بأهمية كبرى كونها مكتبة جامعة لمكتبات الأسر العلمية والشخصيات العراقية المعروفة مثل المحامي عباس العزاوي وأبو الثناء الآلوسي والمحامي صادق كمونة وطه السنوي ورشيد عالي الكيلاني وغيرهم.

ويضيف رئيس هيئة الآثار أن المخطوطات حوت تنوعا موضوعيا وماديا من مخطوطات ومراسلات وفرمانات تعود لعصور ما بعد الإسلام وخاصة من القرن السادس الهجري، ولا توجد مخطوطات لعصور ما قبل الإسلام.

ويبين حسين أن المخطوطات شملت مجالات علمية واسعة قاربت 33 مجالا منها الفقه وعلومه وعلوم القرآن والفلسفة والعقائد واللغة وعلومها والطب الفلك والتاريخ والرياضيات والموسيقى والكيمياء والتصوف وكتب اللاهوت، كما تنوعت المخطوطات بلغات متعددة.

استهداف المخطوطات

من جانبه يقول عضو ملتقى المخطوطات والمكتبات الدكتور محمد الواضح، إن المخطوطات المهربة لا تزال استفهاما وطنيا قائما.

ويضيف -للجزيرة نت- أن الحديث عن أهمية المخطوطات في العراق حديث لا تستوعبه أسطر معدودات، فالعراق منجم كبير للمخطوطات.

وينوه الواضح إلى أن هذه العمليات التي استهدفت المخطوطات والوثائق العراقية ليست وليدة اليوم، فبين احتلال المغول لبغداد عام 1258م وحتى الغزو الأميركي عام 2003 قصة نهب وحرق وإتلاف مهولة للتراث العراقي لم تتوقف.

الدكتور محمد الواضح: على وزارة الثقافة والآثار أن تضع في أولوياتها الحفاظ على ما تبقى من المخطوطات (الجزيرة)

ويبين بأن المدونات التاريخية تشير إلى أن المغول قاموا بتدمير وحرق خزائن المخطوطات، وسرقة أكثر من 400 ألف مخطوط وتهريبها، كما سرق أكثر من 1200 مخطوط من العراق ونقلت هذه المخطوطات إلى مكتبة المتحف البريطاني على يد الرحالة البريطاني ولسن بتج.

ويرجح الواضح أن كل ذلك يجري بترتيب عالمي منظم، أو داخلي محلي على يد بعض ضعاف النفوس، ممن لا يرعون أية قيمة للمخطوطات، مقابل الحصول على منافع مادية، فضلا عن عمليات الحرق التي تعرضت لها مؤسسات معنية بالمخطوطات وأخرى تعليمية في عام 2003.

دائرة المخطوطات العراقية تمتلك نحو 47 ألف مخطوطة تتضمن مختلف اللغات والموضوعات (دار المخطوطات)

ويتحدث الواضح عن أشهر المخطوطات المسروقة، ومنها المخطوطة النفيسة التي كتبها الفنان العراقي يحيى الواسطي وهُرّبت إلى متاحف باريس، والمصحف المخطوط بيد أشهر خطاط في التاريخ علي بن هلال (ابن البواب) المتوفى سنة 413هـ في متاحف بريطانيا، بالإضافة إلى الوثائق الإسرائيلية المؤرشفة في وزارات كالخارجية، ولعل اتهام العراق رسميا لإسرائيل بسرقة مخطوط التوراة البابلية أشهر ما يؤشر إلى عمليات نهب مخطوطاته.

ويلفت إلى أن اجتياح تنظيم الدولة لمدينة الموصل عام 2014 كان حلقة جديدة من هذا الخراب بتدمير البنى الثقافية والحضارية للمدينة والعبث بممتلكات المحافظة لا سيما المخطوطات في جامعة الموصل والأماكن المخصصة لحفظ المخطوطات والكنائس؛ إذ تجاوزت عمليات سرقة المخطوطات أكثر من 4 آلاف مخطوطة.

ويحذر الواضح من أن غياب الاهتمام بهذا الإرث الوطني، من ناحية قيمته العلمية والحضارية يدفع باتجاه ضياعه وسرقته، فلا بد على وزارة الثقافة والآثار أن تضع في أولوياتها الحفاظ على ما تبقى من المخطوطات.

المصدر : الجزيرة