سلطان العاشقين ابن الفارض.. أنشودة حب لا ينتهي

الشاعر الصوفي ابن الفارض توفي سنة 632 هـ بالقاهرة ودفن في سفح جبل المقطم في المسجد المعروف باسمه (الفرنسية)

الأدب في أسمى مراميه كما يعرّفه العلامة الشريف الجرجاني (740- 816 هـ / 1339- 1413 م) "هو ما يحترز به من جميع أنواع الخطأ" وحقيقة الأدب اجتماع جميع خصال الخير، فالأديب هو الذي اجتمع فيه من الخير كل خصاله، واتسقت له أسباب وصاله، ومنه جاءت لفظة "المأدبة"، وهي جمال الاجتماع لطعام الخير وخير الطعام.

والأديب هو ذلك المبدع لفنون القول والكتابة الأدبية، من شعر ونثر وقول وخطابة، أما الشاعر فهو ذلك الناظم لحبات النثر مبدعا منها عقوده وقصائده وقلائده عبر الأوزان والقوافي والموسيقى وفق هندسة البحور المتعارف عليها والتفاعيل الضابطة لذلك الفن باعتباره فن العربية الأول.

والشعراء أنواع بعدد حروف الكلمات وأصداء النغمات، لكن شعراء الحب أندر من الكبريت الأحمر، وشعراء الحب الإلهي هم الندرة عينها.

فالحب في الله ولله هو أوثق عرى الإيمان، وفي ذلك يقول تاج العارفين الإمام الجنيد "هو عبد ذاهب عن نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظر إليه بلبه، أحرقت أنوار هيبة الله قلبه، فشرب من كأس حبه، وانكشف له الجبار من أستار غيبه، فإذا تكلم فبالله، وإذا نطق فعن الله، وإذا تحرك فبأمر الله، وإذا سكن فمع الله، فهو بالله وعن الله وبأمر الله ومع الله".

وكما قال قيس بن الملوح:

وما الناس إلا العاشقون ذوو الهوى                 ولا خير فيمن لا يحب ويعشق

أحوال السالكين

وللسالكين إلى الله أحوال ومقامات، ولهم ذوق وشوق، وزاد وأوراد، يأخذون أنفسهم برياضات الأرواح وتأديب الأشباح، ولهم في هذه المسالك رموز وإشارات لا بد من فكها على الحقيقة ومعرفتها على الطريقة، وإلا أسيء فهم مرادهم وتسفيه زادهم، والشغب على وارداتهم.

ولهم أيضا شطحات وغرائب وشرودات وعجائب يعدها البعض جنونا وزندقة في بعض الأحايين كما حدث مع الشاعر العاشق الأكبر للحب الإلهي سلطان العاشقين عمر ابن الفارض.

ويتواكب الزهد والعرفان والتصوف والسلوك مع الجاه والمال والتوسعة ويسر الحال سيرا عكسيا، فكلما تعاظمت الثروة وألهى الناس التكاثر فزع العارفون إلى ربهم، وخلوا بحبهم لحبيبهم، فاستغرقتهم الحقيقة المحمدية، وطارت بهم أشواقهم للذات العلية، وأضحى لسان حالهم يقول:

إليك وإلا لا تشد الركائب                         وعنك وإلا فالمحدث كاذب

وحبك يا خير النبيين مذهبي                     والناس فيما يشتهون مذاهب

فلا يرون غير المحبوب الذي ملك عليهم الهوى والقلوب، وفاضت منهم أشعار الحب والقربى، مواجيد وأغاريد، وفيوضات وأناشيد، بهيجة متوهجة، وضاءة بلجة كالذي تغنى به قائلهم:

لا يطربون لغير ذكر حبيبهم                   أبدا فكل زمانهم أفراح

والله ما طلبوا الوقوف ببابه                    حتى دُعوا فأتاهم المفتاح

حضروا وقد غابت شواهد ذاتهم               فتهتكوا لما رأوه وصاحوا

أغناهُم عنهم، وقد كشفت لهم                 حجب البقا فتلاشت الأشباح.

ولعل شاعرنا (سلطان العاشقين) ابن الفارض -الذي أمّر نفسه إماما وسلطن نفسه بنفسه- منهم، فهو القائل:

كل من في حماك يهواك لكن                    أنا وحدي بكل من في حماكا

فيك معنى حلّاك في عين عقلي                 وبه ناظري مُعَنّى حِلاكا

فقت أهل الجمال حسنا وحسنى                 فبهم فاقة إلى معناكا

يحشر العاشقون تحت لوائي                    وجميع الملاح تحت لواكا

ذلك الرجل الذي ولد بالقاهرة في ذي القعدة عام 576 هجري/1181 ميلادي لأسرة تنتمي إلى حماة ببلاد الشام، لوالد إمام فقيه كان يعمل فارضا ينظم عمل المواريث، ويقضي بها ويعلمها الناس، ويحيا على جانب كبير من العبادة والزهد والورع رافضا كل منصب يعرضه عليه الحكام.

ذلكم هو أبو حفص شرف الدين عمر بن علي بن مرشد الحموي الذي ولد وتربى في ظل ذلك الكنف الشريف، فحفظ القرآن الكريم ودرس الفقه واللغة والشريعة والمواريث، وتمرس بالرياضات البدنية من سباحة وسياحة وفروسية، والرياضات الروحية من زهد وعبادة وانقطاع وذكر وخلوة، إضافة إلى ما فطر عليه من رقة طبع وجمال ولين وحسن ووضاءة، وما انطبعت عليه روحه من سمو وصدق وشوق وعرفان حسي ومعنوي.

وقد جُمعت له محاسن المقامات بالفطرة والنشأة، ومحاسن السلوك بالتربية والبيئة، فتحقق بالعبادات وترقى بالواردات واستشرف بالسائحات والمشاهدات، وهو رجل اختلفت فيه الأقوال ما بين مصدق ومزندق.

فعلى الرغم من أنه تلقى العلم من فم لأذن عن أبيه الذي رباه ونماه وأدبه ورعاه وتلقى التصوف عن شيوخه بالممارسة والمدارسة فإنه إضافة إلى ذلك تلقى الحديث عن ابن عساكر صاحب "تاريخ دمشق" إلى الحد الذي وصفه فيه ابن حجر قائلا "كانت له صورة كبيرة عند الناس" كما كتب إمام المحدثين السخاوي (تلميذ ابن حجر) يمدح خصاله.

فك الالتباس

لكن الإمام الذهبي انتقده قائلا عنه "صاحب الاتحاد الذي ملأ به التائية (750 بيتا من بحر الطويل)، فإن لم يكن في تلك القصيدة صريح الاتحاد الذي لا حيلة في وجوده فما في العالم زندقة ولا ضلال".

ورماه ابن تيمية بقوله إنه "من أهل الإلحاد القائلين بالحلول والاتحاد ووحدة الوجود"، وقال "تحت شعره حيات وأفاعٍ"، وكذلك صنع العلاء البخاري (توفي عام 841 هجري) في كتابه "فاضحة الملحدين وناصحة الموحدين" وتلميذه البقاعي في كتابه "مصرع التصوف"، والذي رد عليه بشدة الإمام الحصكفي في كتابه "ترياق الأفاعي في الرد على الخارج البقاعي".

وكما لعلماء الحديث قولهم من الجرح والتعديل بخصوص علم الحديث النبوي الشريف يقدرون الرجال ويضعون معايير أوزانهم ودرجات ترجيحهم فإن للنقاد والعارفين والفلاسفة والمتكلمين والعشاق والمحبين قولهم كذلك.

فهذا شيخ أساتذة الفلسفة الإسلامية الدرعمي الكبير المعاصر الدكتور محمد مصطفى حلمي يقول "نلاحظ هنا أن النزعة إلى الزهد في جاه المنصب الذي رفضه أبوه من قبل الملك العزيز لا بد أن تكون لها آثاره في حياة ابن الفارض نفسه، وأن يكون أبوه هو الذي ألقى ببذوره في قلبه، وغرس هذا الزهد والترغيب، فأينع في شخص عمر، وكان له ثمره الذي تناثر في كل أمور حياته".

أما شارح ديوانه مهدي ناصر الدين الحاصل على الماجستير في شعر ابن الفارض، وكذلك الباحثة طاهرة كيريا سفرو شاه من جامعة آزاد الإسلامية فيريانه "فحلا من الفحول استطاع الجمع بين الحقيقة والخيال"، فالحقيقة عنده هي الصورة الروحية، أما الخيال فهو الصورة الحسية التي ارتقى بها إلى المعنويات.

وهو في كل أشعاره يعبر عن نفس أبية شريفة كان لها تأثير في نفوس الناس إلى زمن غير قليل، بل أحيا بأشعاره أجواء التصوف وساحاته التي عقدت الحلقات فيها على اسمه وتحت وجد أشعاره، وبها تغنى المحبون وحوله تحلق العاشقون وتخلق المتصوفة والسالكون.

حب لا ينتهي

نعم، إنه سلطان الوجدان وإمام العاشقين الذي شرقت أشعاره وغربت، وتواكبت شروح ديوانه بالعربية والفارسية والتركية والهندية، ذلك الشاعر العابد الزاهد العارف الإمام رفيف النفس شفيف الحس صاحب وحدة الشهود والسير إلى الحق المعبود، يقول:

ما لي سوى روحي وباذل نفسه                في حب من يهواه ليس بمسرف

فلئن رضيت بها فقد أسعفتني                  يا خيبة المسعى إذا لم تسعف

وحبه هو التوق والشوق، والفرض والنافلة، والأصل والشكل، يقول:

أنتم فروضي ونفلي                        أنتم حديثي وشغلي

يا قبلتي في صلاتي                       إذا وقفت أصلي

جمالكم نصب عيني                       إليه وجهته كلي

وسركم في ضميري                     والقلب طور التجلي

ولعل قصيدته التي ما خلا منها لسان حال متصوف ذاكرا شاكرا من بحر الكامل، والتي يقول فيها:

زدني بفرط الحب فيك تحيرا              وارحم حشى بلظى هواك تسعرا

إن الغرام هو الحياة فمت به               صبّاً فحقك أن تموت وتعذرا

قل للذين  تقدموا قبلي ومن                بعدي ومن أضحى لأشجاني يرى

عني خذوا وبي اقتدوا ولي اسمعوا       وتحدثوا بصبابتي بين الورى

والعاتبون على ابن الفارض وعلى أمثاله ذلك الإسراف والانهماك في التغني بالجمال الحسي يغيب عنهم أن حسن تذوق الجمال الحسي هو المدخل الطبيعي لحسن تذوق الجمال الروحي ضاربين لذلك أروع الأمثلة بسيرة سيدنا إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- حين رأى القمر فقال "هذا ربي"، ثم لما رأى الشمس بازغة قال "هذا ربي.. هذا أكبر".

وعلى غرار "بانت سعاد" التي أنشدها زهير بن أبي سلمى أمام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأقره عليها ولم يعتب عليه فيها شيئا، وقبلها منه شافعة مشفعة.

ذلك هو سلطان العاشقين الذي تواكب في زمانه سلطان العلماء العز بن عبد السلام القاضي الفاضل وابن سناء الملك والعماد الأصفهاني وبرهان الدين بن الجعبري.

عاش ابن الفارض شطرا من حياته طالب علم ومريدا على يد والده على مذهب أهل السنة والجماعة من الأشاعرة الشافعية، ثم لما استفاض أمره انقطع عن الناس في سفرة خلوية إلى جوار بيت الله الحرام 15 سنة عابدا زاهدا منقطعا، ثم عاد مشمولا بالفيوضات والكمالات، من زهد وانقطاع وقلة كلام واشتغال بالذكر والتدبر والفكر.

ثم عاد إلى القاهرة مختليا بنفسه في قاعة الخطابة بالجامع الأزهر متنسكا سالكا، ليكون لسانا شريفا صادقا وعاشقا إلهيا ناطقا بلسان الوجد المصري الشامي الحجازي إلى أن لقي ربه عام 1234 ميلادي، ودفن بالمقطم بعد أن أفنى حياته ذائبا في معايشة الحقيقة المحمدية متعلقا بالذات الإلهية على حال من العشق والحب والوجد والشرف متماهيا مع صفات الجمال والكمال والجلال راقيا شاهدا من حال إلى حال.

رحمة الله على ابن الفارض وسلام على السالكين.

المصدر : الجزيرة