بين خدمة المخطوطات وحفظ التراث الإسلامي والسياسة الاستعمارية.. وجوه مختلفة لمدرسة الاستشراق الهولندية

غلاف كتاب مدرسة الإستشراق الهولندية
كتاب "مدرسة الاستشراق الهولندية" يسعى مؤلفه إلى إعادة النظر في الصورة النمطية السلبية للاستشراق (الجزيرة)

تعود العلاقة بين هولندا والعالم الإسلامي إلى ما قبل الحروب الصليبية (1095-1291)، عندما كان الحجاج الهولنديون يترددون على الأماكن المقدسة في فلسطين، ثم ازداد الاهتمام بالعالم الإسلامي حيث توافد عليه المستشرقون من كل أنحاء العالم لدراسته في سياق المشروعات الاستعمارية الأوروبية من البرتغال وإسبانيا وهولندا وبريطانيا وفرنسا.

وفي كتابه "مدرسة الاستشراق الهولندية ودورها في حفظ التراث الإسلامي المخطوط"، الصادر عن الدار العربية للعلوم ناشرون (2022)، يسعى الكاتب حيدر قاسم مطر التميمي إلى إعادة النظر في الصورة النمطية السلبية للاستشراق، عبر شرح روايته عن الدور الذي لعبته مدرسة الاستشراق الهولندية في الاهتمام بالتراث العربي الإسلامي وحفظ بعض آثاره من الاندثار.

كما يرصد المؤلف دور عائلة "جوينبول" الهولندية الأرستقراطية في مجال الدراسات العربية والإسلامية، ويبين مقدار اهتمامها وعنايتها بالتراث العربي الإسلامي، وقد أنجبت تلك العائلة ستة مستشرقين مخضرمين وحفظت في مكتبتها مجموعة من المخطوطات الإسلامية الأصلية المهمة.

التطلع إلى الشرق.. تأصيل تاريخي

يتطرق المؤلف -في الفصل الأول من الكتاب- لأبرز معالم المدرسة الهولندية، من الجامعات والمؤسسات الفكرية والثقافية التي قدمت خدمات جلى للتراث العربي والإسلامي المخطوط. وتأتي في مقدمتها جامعة ليدن التي تأسست سنة 1575، لتبدأ الدراسات الاستشراقية فيها سنة 1591.

وبالمقابل، يعلق الأكاديمي الهولندي ريتشارد فان لوين المختص بتاريخ الشرق الأوسط والأدب العربي، قائلا "منذ سبعينيات القرن الماضي، تمت ترجمة الأدب العربي بطريقة أكثر منهجية، وظهرت عدة ترجمات للقرآن إلى الهولندية، وأول ترجمة لألف ليلة وليلة من العربية إلى الهولندية".

الدكتور حيدر التميمي
الأكاديمي والمؤلف حيدر التميمي (الجزيرة)

توجّه استعماري

قدّمت المدرسة الاستشراقية الهولندية عبر رجالاتها إنجازات بحثية وعلمية في مجال دراسة اللغة العربية والحضارة الإسلامية. ويشير حيدر التميمي إلى أن الهولنديين منذ نهاية القرن التاسع عشر الميلادي وحتى الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، قدموا مشاريع بحثية جماعية، مثل: "الموسوعة الإسلامية" التي ترأس تحرير طبعتها الأولى البروفيسور مارتارين ثيودور هوتسما (1851-1943)، و"المعجم المفهرس" لألفاظ الحديث النبوي" للمستشرق الهولندي الكبير آرنت يان فنسنك (1882-1939).

وعن تميز المدرسة الهولندية، يقول التميمي "يمكن لنا أن نعد حرفة تحقيق المخطوط السمة الأبرز التي امتازت بها المدرسة الهولندية عن باقي مدارس الاستشراق الأوروبية".

ويرى التميمي في كتابه أن دراسة اللغة العربية كانت من أجل فهم أفضل للغة العهد القديم (تفسير اللاهوت) من قبل المستشرقين الهولنديين، فيما يرى المستشرق ريتشارد لوين فان أن "المستشرقين البروتستانت تحدوا الجدل الكاثوليكي التقليدي ضد الإسلام، واعتبروا معرفة النصوص العربية والإسلامية أمرا حيويا لفهم حقيقي للإسلام ولحوار مع المسلمين حول القضايا الدينية".

وأضاف فان "منذ البداية كان هناك عنصر جدلي بين المسيحيين في دراسة اللغة العربية والإسلام، لأنه حتى القرن السابع عشر احتكرت الكنيسة الكاثوليكية دراسة الإسلام واستندت إلى ترجمات ناقصة للقرآن تم إنتاجها في العصور الوسطى". ويعرب المستشرق الهولندي عن اعتقاده بأن "البروتستانت بنوا شبكاتهم العلمية الخاصة وطوروا نهجا جديدا تجاه الإسلام، كان قائما على اهتمام أكثر موضوعية بالمصادر النصية".

في المقابل، يبدي الأكاديمي حيدر التميمي معارضته، قائلا "يمكن اختزال التوجه العام لدى الأكاديميين والرحالة الهولنديين، بالتوجه الاستعماري الذي نشطت به هولندا مطلع العصور الأوروبية الوسطى، حتى بات التطلع إلى الشرق غاية كل مثقف ودارس حصيف".

المستشرق الهولندي ريتشارد فان لوين
الأكاديمي الهولندي ريتشارد فان لوين (الجزيرة)

الدراسات العربية في هولندا.. الدور التاريخي

وحول النظرة العدائية للإسلام، يرى التميمي أنه "لا يمكن عدّ هذا الشيء أمرا عاما بين المستشرقين الهولنديين"، ويضيف "رغم مرور قرون من البحث والتنقيب في خفايا التراث العربي والإسلامي، ما زال الشك والتشكيك قائما بصورة جلية بين ثنايا كتاباتهم وأبحاثهم".

وعن تغيّر موقف المستشرقين الهولنديين تجاه الإسلام، يقول التميمي "اختفت اللغة العدائية والمستفزة التي كانت ظاهرة في الكثير مما سطره المستشرقون الهولنديون في القرون السابقة، إلا أن هذا لا يمكن بحال من الأحوال عده أمرا خاصا بالإسلام ونظرتهم تجاهه، بقدر ما نراه تماشيا والوضع العام في أوروبا في التعاطي بموضوعية وحياد خلال دراسة أي دين أو مجتمع حول العالم بصورة عامة".

بين الدراسات الشرقية والسياسة الاستعمارية

يرد في الكتاب أن الاهتمام باللغة العربية ارتقى إلى ذروته في شخص العالم المختص بالدراسات الإسلامية والعربية المثير للجدل كريستيان سنوك هرخرونيه (Christiaan Snouck Hurgronje) (1857-1936)، الذي أصبح بعد سفره إلى مكة سنتي 1884 و1885 مستشارا لشؤون المسلمين والسكان الأصليين في الهند الشرقية الهولندية، ولاعبا مؤثرا بالسياسة الاستعمارية الهولندية، حيث يقول هرخرونيه "دراسة اللغة العربية أصبحت جزءا مهما من دراسة التاريخ الإنساني".

ويعتقد الدكتور حيدر التميمي "أن الدافع الاستعماري كان عاملا رئيسا قامت عليه المدرسة الهولندية ككل"، ويوضح "بالتأكيد لا يمكن استثناء هرخرونيه عن هذه القاعدة، خاصة أنه ممن امتاز بهذا الشيء عن باقي زملائه. ويبقى الإنجاز العلمي الذي حققه هرخرونيه طاغيا على المساوئ التي قد يكون أحدثها خلال فترة تواجده في عدد من البلاد العربية، إذ لا يخفى ما كان لهذا المستشرق الكبير من إنجازات بحثية رصينة ومهمة خدمت وحفظت التراث العربي لأجيال عديدة".

المستشرق الهولندي المختص بالدراسات الإسلامية والعربية كريستيان سنوك هرخرونيه (الجزيرة)

من جانبه، يرى ريتشارد فان لوين أن هرخرونيه "ربما يكون أعظم عالم هولندي متخصص في الإسلام في القرن العشرين. من الواضح أنه يجسّد العلاقة بين الدراسات الشرقية والسياسة الاستعمارية، وأظهر أيضا اهتماما حقيقيا بالإسلام وتحديث إندونيسيا".

دارسو العربية الهولنديون.. الحوار مع الشرق

يقول التميمي إن العلماء الهولنديين بدؤوا بعد الحرب العالمية الثانية إيلاء اهتمام كبير وغير مسبوق باللغة والثقافة العربية، فقد تأسست كراس للغة العربية في جامعات أمستردام، وأوتريخت، ونيميخن، واستعرض أبرز العلماء في جامعة ليدن الذين أسهموا في دراسة الأدب العرب، ومن بينهم: يان برغمان (1923-2004) الذي درس الأدب العربي الحديث في مصر، وخليفته ريمكه كروك الذي تخصص في نقل المعارف الإغريقية إلى العالم الإسلامي ومن هناك إلى الغرب، ومن هذه المعارف القديمة الملاحم الشعبية والسحر وعلم نبات العصور الوسطى وعلم الحيوان.

وينوه التميمي بعالم اللغة العربية والإسلام في بداية عصر التنوير بالقرن الثامن عشر أدريان ريلاند (1676-1718)، الذي عمل أستاذا للغات الشرقية في أوتريخت، ونشر سنة 1705 كتابا عن الإسلام بعنوان "في الديانة المحمدية" (De Religione Mohammedica)، فضح فيه خرافات العصور الوسطى عن الإسلام ودعا لمقاربة عقلانية. ويوضح الكاتب أن ريلاند قال إن الإسلام دين خال من مفاهيم خاطئة كثيرة تسود أوروبا.

ويقول المستشرق الهولندي ريتشارد لوين "منذ الستينيات فصاعدا على وجه الخصوص، أصبحت دراسة اللغة العربية والإسلام مجزأة، حيث تم تهميش المراكز التقليدية للدراسات العربية، وأصبح الإسلام موضوعا في مجالات الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع".

ويفسّر المستشرق لوين: "نتيجة لذلك، لم يعد بالإمكان الحديث عن الدراسات الشرقية، حيث أصبحت دراسة الإسلام الآن منقسمة على عدة تخصصات ومجالات، خاصة منذ أن أصبح الإسلام محليا في أوروبا".

ويجيب الدكتور حيدر التميمي -في حديث للجزيرة نت- عن مدى توجّه الدراسات العربية والإسلامية من قبل بعض المستشرقين الهولنديين نحو المستقبل وفق تصور علمي ذي أبعاد إنسانية، فيقول "إن التحول الذي طرأ على طبيعة التوجهات البحثية داخل هذه المدرسة يمكن عدّه وجها من أوجه مسايرة الوضع الراهن، والتماشي مع المتطلبات الأكاديمية المعاصرة".

بينما يؤكد المستشرق ريتشارد فان لوين "أن الإسلام أصبح مادة في برامج الدراسات الاجتماعية والدراسات الدينية، بينما كان الأدب واللغة المحور الرئيسي لبرامج الدراسات العربية".

ويضيف "تحولت رؤية الإسلام من إندونيسيا والعالم العربي نحو التركيز على المسلمين في هولندا وأوروبا، وبذلك تم تقليص برامج دراسة اللغة العربية بشكل كبير، مما أدى بالطبع إلى انخفاض مستوى إتقان اللغة".

ويختم فان لوين قائلا "ذلك سيؤثر سلبا على المنح الدراسية المستقبلية في مجالات أخرى من الدراسات العربية والإسلامية".

المصدر : الجزيرة