الناقد مصطفى عبد القادر: أدب التهجير السوري يتميز بتحرره من الخوف وعين الرقيب

الجزيرة نت - مصطفى عبد القادر
القاص والناقد السوري مصطفى عبد القادر (الجزيرة)

لم يتوقف أدب الهجرة والمهجر في الكتابة العربية منذ القدم، فقد شكّلت حياة الترحال شخصية العربي ولازمته، وفي العصر الحديث أضيف له أدب التهجير؛ فالمنفى يبعث على التفكير كما قال إدوارد سعيد ذات مرة.

وفي السنوات الأخيرة أنتجت المأساة السورية أدبها الخاص الذي تشكلت أبرز فصوله في المنافي والملاجئ. وللتعرف على بعض ملامح ذلك الأدب، زارت الجزيرة نت الأديب السوري مصطفى عبد القادر في منزله في شفايبيش غومند في ألمانيا، وأجرت معه حوارًا عن أدب الهجرة القسرية.

ولد عبد القادر في دير الزور 1957، وهو قاص وناقد ومسرحي، وعرف بالجنس الأدبي الجديد القصة القصيرة جدًّا، وصدرت له 3 مجموعات قصصية، ورواية ومسرحية، فإلى الحوار:

  • أسس أدباء الشام أدب المهجر مطلع القرن الماضي، فهل أسس أدباء سوريا الحاليون أدب التهجير؟

يبدو أن مغادرة الديار قدر السوريين، فقد شهد نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين هجرة (الشوام) إلى الأميركيتين، ومنهم أدباء ومثقفون، وهناك نشأ أدب المهجر، وقدم أدباء المهجر أدبًا رفيعًا وأسسوا روابط وجمعيات أدبية، كما سجلوا معاناتهم في بلاد الغربة نثرًا وشعرًا، وفي نهاية العقد الأول من الألفية الجديدة أي بعد 100 عام تعود الهجرة المرّة من جديد ولكن هذه الهجرة ليست كسابقتها فقد كانت الأولى طوعية، بينما هذه الهجرة قسرية وللأسف فقد تمّت على أعين العالم المتحضر حيث اقتلعت الفئة الكبرى من شعب ثار ضد مستبد وأبعدت عن ديارها مقابل أن يبقى هذا النظام، ولعلنا الآن أمام أدب جديد من أدب الاغتراب القسري، أو قل إنّه أدب الهجرة القسرية أو أدب التهجير.

  • كيف تنظر لواقع الأدب السوري في ظل الهجرة القسرية؟

قبل الثورة كان الأدباء يتسترون بالمخاتلة، والمواربة، والتلميح البعيد خشية سطوة النظام الذي لا يسمح بمرور كلمة تقلقه، فهو يتدخل عبر (رقيبه) في كل شاردة وواردة، حيث لا يمكن إقامة أي نشاط ثقافي إلا بعلمه وإشرافه، أمّا من حيث المطبوعات الرسمية فكان لا بدّ من موافقة وزارة الإعلام بعد قراءة المخطوط، وحين يجد الرقيب ما يشير إلى (ارتفاع الصوت) ولو قليلاً لا يوافق على الطباعة، أما بعد الثورة، وبحكم الهجرة القسرية، تحرر الأدباء، فكتبوا كما لم يكتبوا من قبل، بعد أن طرد كل أديب منهم الشرطي القابع في جمجمته، وكسر عصاه، لذلك تجد حالة من التميز فيما كتب بعيدًا عن (احمرار عين الرقيب) وتسلطه المحبط.

إن اتساع مساحة حرية الكتابة، وإبداء الرأي أعطيا دفعًا كبيرًا للأدباء باتجاه التألق والتعبير دون هواجس الخوف، والقلق، والتوتر التي كانت لها انعكاسات سلبية على نتاجات الأدباء (المبسترة).

  • ماذا عن معاناة الأديب في الهجرة المفروضة عليه، وما الصعوبات التي تواجهه في بلاد اللجوء؟

إنّ الأديب المهجّر لا يجد الانتشار الأفقي والعمودي الذي كان يتمتع به، فهو يسعى لأن يكون مسموع الصوت، مقروء الكتاب لدى أغلب شرائح المجتمع، فاللغة التي يكتب بها لا تساعده على الوصول إلى الناس بالشكل الأمثل، وإذا لجأ إلى الترجمة بلغة البلد الذي يقيم فيه سوف تترتب عليه أعباء مادية تثقل كاهله، ناهيك عن معاناته من ارتفاع أسعار الطباعة، وإذا فكّر بالتعامل مع دار نشر في أحد البلدان العربية حتمًا سيدفع أجور الشحن والضرائب، باستثناء قلّة قليلة من الأدباء لديهم المقدرة المادية على ترجمة أعمالهم وطباعتها لأنهم بسن يسمح لهم بالعمل، وتاليًا تغطية هذه النفقات دون إزعاج يذكر.

ومن الصعوبات أيضًا أنّ الأديب في المهجر لم يعد قارئًا ممتازًا كما من ذي قبل، ولم يعد متابعًا نشطًا للإصدارات الأدبية الجديدة التي تعج بها معارض الكتب هنا وهناك، والسبب في ذلك هو الضغوط المادية، كما أنه يعاني من صعوبة التأقلم مع محيطه الجغرافي الجديد البعيد عن المشتركات اللغوية، والبيئية، والاجتماعية.

  • هل أدّت الروابط الثقافية في ألمانيا دورها في تذليل الصعوبات التي تواجه الأديب، وهل استطاعت التعريف بالأدب العربي الحديث؟

لا شك أنّ تلك الروابط الثقافية تحاول قدر المستطاع أن تنشط في إقامة الأمسيات الأدبية، والفنية، والفكرية، بل حتى على مستوى إقامة دورات لتعليم الأطفال الكتابة والقراءة بلغتهم الأم، وتوفير مكتبات تضم مطبوعات باللغة العربية، إضافة لبرنامجها السنوي المعتمد الذي يستقطب الأدباء من كل مكان كي تزداد أواصر المعرفة فيما بينهم، ما يعطي دفعًا جديدًا لاتساع دائرة التلاقح المعرفي، وأعتقد أن هذه الروابط لها فضل تقديم الأديب للجمهور الألماني، والتعريف بنتاجه، ففي أكثر من أمسية أقمتُها وجدت حضورًا عربيًّا وألمانيًّا يفوق عدد الحضور في مراكزنا الثقافية السورية، حيث يتم الإلقاء باللغة العربية والمترجم يقتفي أثر الأديب مباشرة بالترجمة الفورية بكل أمانة وسلاسة.

  • من خلال كتاباتك النقدية لعدة أعمال سورية لأدباء مهجّرين.. ما الموضوعات التي عالجتها تلك الأعمال؟

لقد عايش السوريون الكثير من الأجواء النفسية، والسياسية، والفكرية الضاغطة عبر عقود من الزمن، ما أسهم في إيجاد تغييرات جمة على الصعد كافة ومنها الأدب. تجلى ذلك في إنتاج المئات من الروايات، والمجموعات القصصية، والدواوين الشعرية التي حملت في مضامينها سماتٍ دلالية متماهية مع تلكم التحولات المجتمعية، حيث انبثقت تيارات، وتجارب، وأنماط أدبية مغايرة لما هو كائن في المنتوج الأدبي، إذ لمسنا تطورًا فنيًّا على صعيد الشكل، والتقنيات، والجماليات، فالأديب السوري رغم تهجيره القسري لم يستطع الانفكاك عما حدث ويحدث في بلده من مشاهد تراجيدية دامية، واستخدام كل أنواع الأسلحة الفتاكة المتطورة التي حوّلت المدن العامرة إلى خرائب، لذلك تراه يعبر بقلمه عن أوجاع وطنه موثقًا تلك المآسي التي فاقت كل التصورات العقلية، والتخمينات التخييلية.

أسهم الأدب المهجري مساهمة جلية في التعبير عن معاناة الشعب السوري في ظل ثورته الممتدة إلى ما شاء الله؛ حيث نجد كتّابًا توزعوا في أرجاء المعمورة حاملين معهم همهم الوطني، وظلّوا مخلصين في كتاباتهم لما آمنوا به، وجزموا بصوابيته رغم أوضاعهم النفسية الموسومة بالإحباط والاستيحاش، ومع ذلك بقيت قلوبهم معلقة في وطنهم تقطر ألمًا جسدوه من خلال أقلامهم التي ما فتئت تبث صديد الظلم والقهر الممزوجين بأمل الانتصار ولو بعد حين.

لقد تناول الأديب السوري في مغتربه موضوعات شتى، لكن الأغلب الأعم طغى عليه المضمون (الاحترابي السياسي) وما خلفه من تداعيات على البنى الفوقية، والتحتية، والاجتماعية، والاقتصادية التي انحدرت إلى الحضيض، هذا الانحدار لم يفت الأدباء وما نتج عنه من انهدام المستوى التعليمي، والصحي، والأخلاقي بمفرزاته المتشعبة، فطفت على السطح طبقة عامة واسعة (خاوية البطون)، وأخرى خاصة ضيقة (متخمة الكروش) طويلة اليد، متطاولة النفوذ، معدومة الحس وهي مستعدة للدفاع عن أناها بكل الطرق، متجاوزة بذلك كل أبسط القيم والأعراف الإنسانية.

  • هل أثّر أدب الهجرة القسرية في المجتمعات التي وفد إليها الأدباء السوريون؟

هذا يحتاج لوقت أطول مما نحن فيه للوصول إلى عقول وقلوب المجتمع الألماني على سبيل المثال نظرًا للصعوبات التي ذكرتها آنفًا، وإن كنا قد وصلنا بشكل معقول قياسًا إلى الفترة الزمنية التي أمضيناها هنا، ولأضرب لكم مثالًا ربما فيه المراد؛ مع بداية قدومنا إلى ألمانيا سألنا الألمان عن أديب سوري اسمه (وفيق الشامي)، فقلنا لهم: لم نسمع به، فانتابهم الاستغراب، وعلت وجوههم الدهشة؟!وحين تتبعنا أخباره، وما كُتب عنه في وسائل الإعلام وجدنا أنه كاتب سوري مقيم في ألمانيا منذ عقود طويلة، ذو نتاج غزير يعرفه القاصي والداني، وقد تم تكريمه في الكثير من المحافل الثقافية، والسؤال المطروح هنا، لو بقي هذا الأديب في سوريا هل كان سيحظى بهذه الشهرة وينال ذلك التكريم والاحتفاء؟ الجواب بالطبع لا.

آمل أن نستطيع تثبيت أقدامنا، وتقديم نتاجنا بالشكل الذي يحقق طموحاتنا، وأظن أنّ هذا لن يتأخر كثيرًا، ولطالما لمسنا حرص الأدباء، ودأبهم المستمر على تطوير أدواتهم لتقديم نتاجات أدبية رفيعة المستوى، تليق بهم وببلدهم لا سيما أنهم يجيدون تعميم المخصوص، والنحت في عمق الحالات الإنسانية الصالحة لكل زمان ومكان.

  • مهمة الأديب تعرية الواقع، لكن الثورات العربية أسقطت كثيرا من الأسماء التي كانت تبشر بغد أجمل لأنها وقفت ضد إرادة الشعوب بالتغيير، ما سبب ذلك؟

في الثورات عادة نجد كُتابًا يوالون السلطة السياسية، ويتعامون عن كل تلوثاتها، وذلك على حساب الشعب المقهور، وآخرين يعارضونها، ويكشفون زيفها، وعدم صلاحيتها للقيادة، فالطبقة المثقفة مطالبة بالانحياز لإنسانية الإنسان أينما وجد، لأنّ المثقف أو الأديب يجب أن يدافع عما نادى به في كتبه، أو مقالاته، أو محاضراته ليثبت مصداقيته، ولكي لا تهتز صورته وتتشوه بنظر الناس، وإلا سقط في مستنقع النفاق والتشدق والانبطاح. إن ما حصل من قتل وترويع يحتم على المثقف أن يكون منصفًا عادلاً في آرائه لأنه قدوة مجتمعية، أو هكذا يفترض أن يكون.

أليس هو من كتب قبل الثورة مناصرًا الفقراء والمظلومين، وادعى مقارعة السلطة وجورها في بلده؟ أليس هو من وجّه أصابع الاتهام لها، وأعلن رفضه لتقييد الحريات، وتكميم الأفواه؟ أليس هو من رفع الصوت عاليًا مناديًا باجتثاث الفساد، وتخفيف القبضة الأمنية المتشددة؟ لا أفهم كيف يتراجع الأديب عن مواقفه المعلنة المدونة في كتبه، ومقالاته، ومحاضراته، ويتخلى عنها بهذه السهولة ليقف على الضفة المعادية لشعبه؟! حقًا إنّ الثورات تعرّي الجميع وتضعهم تحت المجهر دون أي رتوش، أو تزيين، وأولئك الرماديون مدانون برماديتهم حين لاذوا بصمتهم أمام جرائم هم شهود عيان عليها.

أغلفة - أعمال مصطفى عبد القادر - الجزيرة نت
نصوص مختلفة للكاتب مصطفى عبد القادر (الجزيرة)
  • ألم يؤدِّ ما ذكرت لانقسام المشهد الأدبي السوري بين موال ومعارض؟

نعم صحيح، صنفان من الأدب ما زالت المطابع تلفظهما أمام الجماهير.

الأول يمثله الباطل وهو يعلم باندثاره غير البعيد مغلبًا نرجسيته واصطفافه (مقبوض الثمن)، والثاني انتصر للحق ووقف مع الشعب، وهو على يقين بأنّ الخلود سيكتب له لأن التاريخ سيفرز الغث من السمين، ولا يبقى بيد الأجيال المقبلة إلّا الحقائق العارية الخالية من أيّ تزييف، أو تزوير، فمنطق الثورات في العالم هو من يؤكد ما نقول وليس نحن.

  • ما أهم النماذج من أدب الغربة التي تناولتَها ناقدًا لعدد من الأدباء السوريين، والقاسم المشترك بينهم؟

لقد درستُ أغلب النصوص التي وقعت بين يدي من (رواية، وقصة، وشعر) ومنها رواية "باب الأبواب" ليوسف دعيس، ورواية "الخميادو" لإبراهيم جبين، ورواية "حتى إذا بلغت الأربعين" لليندا الشبلي، ورواية "اغتصاب الياسمين" لرشا الحسين، وكذلك ديوان "فراشة ونور" لسمية علوني، وديوان "أناشيد ميونخ المؤجلة" لفواز القادري، وهناك روايتان قيد الدراسة هما "جمهورية العبث" لفواز العلو، و"صداع في رأس الزمن" لعواد الجدي.

إن أغلب هذه النصوص الأدبية مهما تشعب سردها، أو تناثر نثرها، أو اختلفت طريقة تناولها وتسطيرها، يبقى الناظم الجامع لها، والمحور الأساس الذي بنيت عليه واستقامت هو الوطن ولا شيء سواه.

المصدر : الجزيرة