الفلسفة "النباتية" في رسائل الشيرازي والمعري.. ظلال السياسة في جدل أكل الحيوان

أبو العلاء المعري.. فيلسوف الشعراء
أبو العلاء المعري، الشاعر والأديب الضرير، عاش خلال العصر العباسي الثاني الذي شهد اضطرابات سياسية وتوفي في معرة النعمان عام 449هـ/1057 م (الجزيرة)

أن تكون نباتيا في العصور الوسطى بالعالم الإسلامي ليس أمرا سهلا، إذ كان سكان العالم في ذلك الوقت يجمعون على فكرة أن الحيوانات منحة إلهية مسخرة للاستخدام البشري. وبينما طبّق المسلمون معايير الحلال في الجزارة والتحضير بطريقة دقيقة، لم يشكك أحد في مشروعية تناول اللحوم، مع استثناءات نادرة.

لذا لم يكن مفاجئا اهتمامُ المراقبين البالغ بالموقف النباتي المتشدد الذي تبناه أبو العلاء المعري، الشاعر والأديب الضرير المتهم بكونه "زنديقا"، ضد استخدام المنتجات والأطعمة الحيوانية، فهو لم يتبنَ موقفا نادرا وغير مألوف بين المسلمين فحسب، بل بين معظم سكان العالم في زمنه.

وتكشف 5 رسائل كتبت بلغة أدبية فصيحة بين المعري الذي سكن معرة النعمان في بلاد الشام، وبين الشاعر الفاطمي المقيم بالقاهرة المؤيد في الدين الشيرازي، عن هذا الاستغراب البالغ من "النباتيين" في العصور الوسطى.

الممارسات النباتية

كتب المؤيد رسائله للمعري ليستفسر منه -ظاهريا- عن "حالته النباتية"، لكن اهتمامه الحقيقي كان فضح الممارسات الغذائية للشاعر السوري، وهذا ما كان واضحا في جميع المراسلات التي تحاورا فيها.

ويعتبر المؤيد من أشهر فلاسفة المذهب الإسماعيلي، لكن مناظرته مع المعري على خلفية "تحريم أكل اللحم" أكسبته شهرة تجاوزت زمنه، وفي رسالته إليه، سأل المؤيد المعري عن "العلة في تحريمه علی نفسه اللحم واللبن وكل ما يصدر إلی الوجود من منافع الحيوان".

ويشرح في رسالته ما يعتبره ضرورة أكل منتجات الحيوانات، متهما المعري بالاعتراض على حكمة الله قائلا "أما أنَّه يجد سفك دماء الحيوان ونزعها عن أرواحها خارجا من أوضاع الحكمة، وذلك اعتراضٌ مِنه (أي المعري) علی الخالق سبحانه الذي هو أعرف بوجوه الحكمة".

وبرز التلاعب بالألفاظ وإمكانات المجاز الأدبي واضحا في لغة الرسائل المتبادلة بين الشاعرين، ورغم أن الرسائل لم تخل من التهكم والسخرية، فإنه غلب على اللغة المتبادلة التوقير والاحترام المتبادل.

وقد رد المعري على هجوم المؤيد، وخلد ذلك في قصيدته الشهيرة التي يقول فيها:

غَدَوتَ مَريضَ العَقلِ وَالدينِ فَالقَني

لِتَسمَعَ أَنباءَ الأُمورِ الصَحائِحِ

فَلا تَأكُلَن ما أَخرَجَ الماءُ ظالِماً

وَلا تَبغِ قوتاً مِن غَريضِ الذَبائِحِ

وَأَبيَضَ أُمّاتٍ أَرادَت صَريحَهُ

لِأَطفالِها دونَ الغَواني الصَرائِحِ

وَلا تَفجَعَنَّ الطَيرَ وَهيَ غَوافِلٌ

بِما وَضَعَت فَالظُلمُ شَرُّ القَبائِحِ

وَدَع ضَربَ النَحلِ الَّذي بَكَرَت لَهُ

كَواسِبَ مِن أَزهارِ نَبتٍ فَوائِحِ

فَما أَحرَزَتهُ كَي يَكونَ لِغَيرِها

وَلا جَمَعَتهُ لِلنَدى وَالمَنائِحِ

وعرف عن المعري سلوكه طريق الزهد، لكن داعي الدعاة الفاطميين الشيرازي حاول أن يلصق به تهمة "المانوية"، أو التأثر بالديانات الشرقية، معتبرا أن زهده ليس إسلاميا، وإنما يحمل تأثيرات هندية ونظرة مختلفة عن الآخرة.

وترى فلسفات وديانات شرقية مثل "المانوية" أن جسد الإنسان مصدر الشرور ويجب إضعافه، ودعا "ماني" المولود في بابل لتحريم اللحم "الذي ينشأ من الشيطان"، وزهد في الوجود وصام ليضعف بدنه، وامتنع عن الزواج وذبح الحيوان.

وكان المؤيد يعمل قريبا من البلاط الفاطمي بالقاهرة، واستخدم الشعر كسلاح قوي في الترسانة الفاطمية الشيعية التبشيرية، وكان قراره بمواجهة المعري أكبر من مجرد تصحيح آراء الأخير، وإنما كان جزءا من عمل المؤسسة التي أنشأها الخليفة الفاطمي بالقاهرة، وعملت كمنظمة دينية وسياسية للتبشير بمذهب الفاطميين في عالم إسلامي متعدد المراكز والمدن الكبرى، بحسب دراسة الأكاديمي بجامعة بريغهام يونغ كيفن بلانشيب الصادرة عن منشورات بريل.

التنافس السياسي

في ذلك الوقت كان التنافس بين مراكز القوى الإسلامية من الأندلس إلى بلاد فارس على أشدّه، وكان العباسيون السُّنة في بغداد والفاطميون الشيعة بالقاهرة في سياق تنافس محموم للتمدد والسيطرة على بلاد الشام والحجاز، وكذلك كان الأمويون يحكمون الأندلس من قرطبة.

هاجم الفاطميون سلطة العباسيين الرمزية من خلال ادعاء نسبهم إلى فاطمة ابنة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وبين مراكز القوة الثلاثة علقت العديد من الدويلات المتهالكة، مثل البويهيين والغزنويين في شرق بغداد، والحماديين في شمال أفريقيا أو ما يعرف حديثا بالجزائر، والزيريين في القيروان، وملوك الطوائف في الأندلس.

ومثلت مناطق التنازع بين الخلافات الثلاث تنافسا للسيطرة امتد للجوانب السياسية والعسكرية والدبلوماسية، وشمل التنافس على المثقفين والأدباء.

وعاش المعري بنفسه في منطقة متنازع عليها بين منطقة الحمدانيين، ولاحقا المرداسيين في حلب والرقة وحمص، وهي أسرة شيعية حوصرت بين الفاطميين في مصر وبين البيزنطيين في الشمال الغربي.

وبالتأكيد كان الجدل بين الشاعرين موجها للجمهور الذي انتقد كثير منه "الممارسة النباتية" للمعري، واتهم بسببها بالهرطقة، لكن داعي الدعاة الفاطميين أراد أيضا استمالة الجمهور للمذهب الفاطمي عبر فضح حجج المعري.

جدل الحمية الغذائية

في هذا الصراع والجدل حول قضية "النباتية"، كان الجدل بين المعري والشيرازي علامة فارقة من الناحية الثقافية والدينية.

وبينما كان معظم العالم الإسلامي معارضا وبشدة لمنع استخدام المنتجات الحيوانية من باب الاعتدال في الممارسات الاجتماعية والدينية، كان هناك مفتونون بالتأثير البيزنطي العالمي ومركزه القسطنطينية، وهذا جعل "معايير الطهو النباتي" من الممارسات التي دخلت الأراضي الإسلامية، بحسب دراسة كيفن.

كان البيزنطيون يدينون بالمسيحية، ولهذا اهتموا بالخضروات التي يأكلونها في فترة الصيام المسيحي، ومن ناحية أخرى شهدت هذه الفترة اهتمامًا شديدا بكتابات الطبيب الإغريقي غالينوس للتركيز على النظام الغذائي المعتدل.

ووجدت بعض هذه الأفكار صدى في العالم الإسلامي، لكن في المخيلة الشعبية ظلت موصومة بالتأثير الأجنبي إلى درجة أنها وصفت بـ"البدعة".

المصدر : الجزيرة