رمز العداء الكاثوليكي للكومونة.. باريس تصنف كنيسة القلب المقدس "معلماً تاريخياً" بعد اعتراضات استمرت طويلاً

الكنيسة الفرنسية العريقة تعد واحدة من أبرز نقاط الانقسام والاستقطاب، فقد أُطلق مشروع بناء المعلم إثر هزيمة فرنسا أمام بروسيا (1870) وبعد الثورة الفرنسية الرابعة (كومونة باريس) سنة 1871، وهي محطة تاريخية دامية انطلقت من موقع الكنيسة.

This picture taken on November 22, 2022 shows the Sacre-Coeur Basilica (Sacred Heart) at the summit of the butte Montmartre in Paris. (Photo by JOEL SAGET / AFP)
كنيسة القلب المقدس واحدة من المعالم الأثرية الأكثر زيارة في باريس لكنها تشكل رمزا لانقسام الفرنسيين (الفرنسية)

صادقت وزارة الثقافة الفرنسية على تصنيف كنيسة القلب المقدس -في منطقة مونمارتر الباريسية التي تشكل مقصدا أساسيا للسياح- ضمن قائمة "المعالم التاريخية".

وأشار مكتب وزيرة الثقافة ريما عبد الملك -في بيان- إلى أن هذا القرار الذي يأتي عقب موافقة من هيئة التراث الوطني والهندسة المعمارية سيجري التصديق عليه نهائيا في الأيام المقبلة بقرار من الوزيرة.

وتنهي الخطوة سنوات من الجدل السياسي حول الموقع الذي شكّل طويلا رمزا للانقسام بين نظرتين لفرنسا: إحداهما متشبثة بالإرث الكاثوليكي، والثانية مناوئة لتأثير الدين في هذا البلد العلماني. ولفتت الوزارة في بيانها إلى أن "الكنيسة تمثّل موضوع انقسام تاريخي، لكن حماية معلم تاريخي لا يعني تمجيد وجها محدّدا من تاريخه".

French Culture Minister Rima Abdul Malak leaves following the weekly cabinet meeting at the Elysee Palace in Paris, France, October 26, 2022. REUTERS/Sarah Meyssonnier
وزيرة الثقافة الفرنسية ريما عبد الملك على صادقت على تصنيف الكنيسة ضمن قائمة "المعالم التاريخية" (رويترز)

وقبل شهرين، أعطى مجلس مدينة باريس الضوء الأخضر للطلب من الدولة منح البازيليك الشهيرة هذا الاعتراف الذي يعطيها مستوى الحماية الأعلى.

ويقع هذا المعلم الديني البارز على تلة في منطقة مونمارتر (شمال العاصمة)، وشُيّد من الحجر الأبيض بالنسق الروماني البيزنطي بارتفاع 85 مترا، يشكل موقعًا مألوفًا للباريسيين ومقصدًا أساسيًا للسياح على السواء، إذ يستقطب "نحو 11 مليون زائر سنويًّا"، وفق كاهن الكنيسة الأب ستيفان إسكليف.

لكن هذه الكنيسة الفرنسية العريقة تعد واحدة من أبرز نقاط الانقسام والاستقطاب الفرنسي، فقد أُطلق مشروع بناء المعلم إثر الهزيمة أمام بروسيا (1870) وبعد الثورة الفرنسية الرابعة (كومونة باريس) سنة 1871، وهي محطة تاريخية دامية انطلقت من موقع الكنيسة.

وسنة 1873، أعلنت الجمعية الوطنية التي كان يهيمن عليها المحافظون بازيليك القلب المقدس مكاناً ذا منفعة عامة.

Tourists visit the Sacre Coeur (Sacred Heart) basilica in Paris, France, July 30, 2017. REUTERS/Benoit Tessier
كاتدرائية القلب المقدس في باريس (رويترز)

وعندما تم وضع الحجر الأول لبنائها، أوضح هوبير روهولت دي فلوري، أحد مموليها الرئيسيين، ازدراءه للكومونات المهزومة، فقال "بالنسبة لكل من يحبون الدين وبلدهم، سيكون بناء كنيسة في المكان الذي خُطفت فيه المدافع من أجل الانتفاضة مصدر فرح".

جذور العداء

في يناير/كانون الثاني 1871، استسلمت فرنسا للجيش البروسي بقيادة أوتو فون بسمارك، بعد حصار دام 3 أشهر جعل باريس تجثو على ركبتيها. ومع انهيار الإمبراطورية الثانية بفرنسا، تم انتخاب حكومة جديدة مؤيدة للملكية للتفاوض مع الألمان.

لكن وسط الفوضى والإذلال الوطني، رفض النصف الأفقر من باريس التخلي عن أسلحته وقرر الانتفاض على جيشه وحكومته. وفي 18 مارس/آذار، استولى الثوار على المباني الحكومية. وفر الرئيس المنتخب أدولف تيير إلى فرساي.

شكل الثوار ما عرف بالكومونة، التي تمت محاصرتها من جميع الجوانب، لمدة 72 يوما مضطربة، قبل أن يتم قمعها بوحشية.

وكتب الروائي الشهير إميل زولا "لم يحدث من قبل أن وقعت أزمة أكثر فظاعة في مدينة عظيمة". لقد لقي حتفه على المتاريس ما لا يقل عن 8 آلاف من الكومونة، بمن فيهم العديد من النساء والأطفال، أو أطلق عليهم النار والرصاص الحي خلال "الأسبوع الدموي" من 21 إلى 28 مايو/أيار. ومع تصاعد أعمال العنف خارج نطاق السيطرة، قتل الكومونيون رئيس أساقفة باريس وأكثر من 50 رهينة آخرين، العديد منهم قساوسة، وشكلت تلك الأحداث عنوان عداء تاريخي كبير بين الكاثوليكية وثوار الكومونة.

المتمردون الفرنسيون أثناء أحداث الكومونة عام 1869 (شترستوك)

انقسام حول حي التمرد

ويوضح مدير المؤتمرات في جامعة بانتيون سوربون (باريس الأولى) إريك فورنييه للوكالة الفرنسية أن "المعلم رفع منذ البداية راية شريحة أثارت انقساماً سياسياً حاداً، وهم الكاثوليك المتشددون" الذين أرادوا "تركيع حي كان مصنفاً من أحياء التمرد شمال شرق باريس" ولكن أيضاً "للتكفير عن الثورة الفرنسية الرابعة عام 1871 وكل الثورات منذ 1789".

مذاك، تُربط الكنيسة بحركة "التيار الأخلاقي" التي مارست سلوكاً قمعياً في تلك الحقبة. وشكّلت الكنيسة التي استغرق بناؤها سنوات طويلة (بين عام 1875 و1923) موضع جدليات كثيرة بين الساسة والمؤرخين، وصولاً إلى نقاش قصير شهده مجلس مدينة باريس الأسبوع الماضي.

وقالت النائبة الشيوعية رافاييل بريميه "تتويج هذا القمع تمثل بإقامة هذا المعلم الديني الكريه فوق جثث ضحايا يُقدّر عددهم بحوالى 30 ألفاً" معتبرة أن "هذا التصنيف يمثل تحدياً لذكرى ثوّار 1871".

كما اعتبرت سيلفي بريبان نائبة رئيس جمعية "أصدقاء كومونة باريس" أن "هذا القرار يبدو كأنه دفن جديد لهذه الثورة".

غير أن فورنييه الذي يصنف نفسه بأنه "يساري" رأى أن هذا "الصراع على الذاكرة يعكس اليوم معركة رجعية" عندما "نرى لأي درجة بات هذا المعلم مألوفاً على مر السنين".

تاريخ مضطرب

وأشارت كارن طيب مساعدة رئيسة بلدية باريس لشؤون التراث إلى أن "التصنيف يشمل ساحة لويز ميشال التي تحمل اسم شخصية بارزة" في الثورة الفرنسية الرابعة. ويتيح ذلك "إقامة حوار بين هذين التاريخين من دون أن يطغى أي منهما على الآخر".

وبصورة ملموسة، سيتيح تصنيف الكنيسة ضمن قائمة المعالم التاريخية تغطية أعمال محتملة في الموقع "وصولاً إلى 40% من الميزانية" من جانب الإدارة الإقليمية للشؤون الثقافية، مقابل 20% في حال إدراج الموقع على القائمة وفق مستوى الحماية الأدنى الذي ناله البازيليك سنة 2020، وفق كارن طيب.

ويقول الأب ستيفان إسكليف "رغم التاريخ المضطرب، لا يمكن الاستمرار بالنظر إلى الأمور من منظور الماضي، يجب أن نتقدم إلى الأمام والتوقف عند الرمزية التي يرتديها هذا الموقع حالياً".

ومن بين المشاريع التي يرغب الكاهن في حصولها في هذا الموقع "توفير مسار خاص يسهّل دخول الأشخاص ذوي الحركة المحدودة" وأيضاً "أعمال تجديد لآلة أرغن كافاييه كول التي تعاني وضعاً متردياً منذ 6 سنوات".

ويشكل تصنيف الكنيسة "معلماً تاريخياً" نبأ ساراً لبلدية الدائرة رقم 18 في باريس التي تكافح من أجل إدراج منطقة مونمارتر على قائمة التراث العالمي الصادرة عن منظمة اليونسكو.

كومونة باريس

في سجلات اضطرابات فرنسا الثورية، تظل ذكرى كومونة باريس عام 1871 وحواجزها الدموية مكانة حادة وقاتمة، وأدى قمعها الوحشي من قبل الجيش إلى إحداث جروح لم تلتئم رغم مرور قرن ونصف القرن عليها، بحسب تقرير سابق للجزيرة نت.

حاجز نصبه المنتفضون في شارع بالعاصمة عام 1871 خلال أحداث كومونة باريس (غيتي إيميجز)

وكومونة باريس (الثورة الفرنسية الرابعة) هي حكومة اشتراكية راديكالية ومعادية للكنيسة أدارت باريس فترة قصيرة من 18 مارس/آذار 1871 وحتى 28 مايو/أيار من العام ذاته، نتيجة اجتياح الجيش البروسي المدينة، واعتبرت أول ثورة اشتراكية بالعصر الحديث قبل أن تنتهي بحمام دم خلال "الأسبوع الدامي".

وفي تقرير صحيفة غارديان البريطانية نقل المحرر المشارك جوليان كومان عن ماتيلدا لاريير المؤرخة المتخصصة بالحركات الراديكالية في فرنسا القرن الـ 19 قولها "على عكس أحداث الثورة الفرنسية عام 1789، لم يتم دمج الكومونة بشكل حقيقي في القصة الوطنية". كانت متوحشة، فوضوية ويسيطر عليها الفقراء الباريسيون، مكروهة من البرجوازية الليبرالية وكذلك من قبل المحافظين والملكيين من اليمين.

وتضيف لاريير "لم تصبح كومونة عام 1871 جزءا من ذاكرة جماعية توافقية" ففي مجتمع "محترم" كان ينظر إليها على أنها غير مقبولة. لكن بعد مرور 150 عاما بالضبط، بدأ "الكومونيون" في العودة، مقسّمين باريس من جديد.

ووفقا لباتريس مستشارة باريس المكلفة بالإشراف على الذكرى الـ 150 للكومونة التي حلت خلال عام 2021 وأثارت جدلا كبيرا، فقد حان الوقت للاعتراف بثوار عام 1871 كرواد راديكاليين، وقالت "نحن نتحدث عن مجموعة كبيرة من المواطنين الذين اجتمعوا معا لاتخاذ مصيرهم بأيديهم، مثلت الكومونة حالة حداثية/تقدمية، وكانت تطلعاتها قريبة مما يريده بعض الناس اليوم".

المصدر : الجزيرة + الفرنسية + الصحافة البريطانية + الصحافة الفرنسية + غارديان