مارتن لوثر.. كواليس الإصلاح ونشأة البروتستانتية

انغمس الراهب الألماني، والقسيس، وأستاذ للاهوت، ومُطلق عصر الإصلاح في أوروبا مارتن لوثر في ممارسات متطرفة للتوبة، ثم ذهب في رحلة حج إلى روما كجزء من بعثة الدير الخاص به، لكنه انزعج من الفساد الذي رآه هناك. إذن، ذهب لوثر إلى روما ليجد خلاصا من معاناته، فإذا بها تزيد لأن الفساد طال البابا ومن حوله.

في 31 أكتوبر/تشرين الأول 2016 احتفلت ألمانيا بـ "عام مارتن لوثر" للاحتفال بالذكرى السنوية الـ 500 للإصلاح الذي أطلقه وأدى إلى إنشاء حركات بروتستانتية ناجحة في أهم تحدٍ للكنيسة الكاثوليكية في التاريخ (غيتي)

ولد الراهب الألماني ومطلق عصر الإصلاح في أوروبا مارتن هانس لوثر عام 1483 لأب كان يعمل مهندس تعدين في ساكسونيا شرق ألمانيا، وأرسل هانس ابنه إلى جامعة إيرفورت (University of Erfurt) ليصبح محاميا، بعدما حاز درجة الماجستير في الآداب عام 1505.

وفي وقت لاحق من العام نفسه، هبت عاصفة شديدة أثناء ذهاب مارتن إلى الجامعة، ونزلت صاعقة بالقرب منه، واقتنع أنه سيموت، فقال "يا قديسة آن أنقذيني، وسأصبح راهبا"، والقديسة آن هي شفيعة عمال المناجم حسب اعتقاده، وأصبحت العاصفة التي حولت مسار حياة مارتن لوثر، بداية لعواصف أكثر شدة ستفتك بأوروبا كلها، وتعيد صياغة العلاقات الدولية كذلك.

كواليس الإصلاح

بدأ لوثر، بعد هذه الحادثة، دراسة اللاهوت، وحصل على درجة الدكتوراه عام 1512. ويذكر المؤرخ غلن صنشاين (Glenn Sunshine)، أن لوثر واجه مشكلة كبيرة تتعلق بالإحساس بالذنب، وهذا ناشئ من "تعليل منطقي لكلمات يسوع في الإنجيل عندما سئل عن الوصية العظمى. أجاب يسوع "تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل فكرك، ومن كل قدرتك" (…) فسأل لوثر نفسه "ما أعظم خطيئة؟". الإجابة الوحيدة الممكنة كانت "عدم محبة الرب بكل قلبك، ونفسك، وفكرك، وقوتك".

عندما امتحن لوثر نفسه بحسب هذا المقياس، أدرك أن مشاعره، وإرادته، وأفكاره، وأعماله لا تحكمها محبة الله، وبالتالي، فقد كانت كلها تعديا على الوصية العظمى، وكلها خطايا مميتة".

كبار شخصيات الدولة الألمانية والكنيسة الإنجيلية في قداس ديني للاحتفال بذكرى مارتن لوثر في 2017 (غيتي)

يضيف "صنشاين" في كتابه (كواليس الإصلاح)، أن لوثر انغمس في ممارسات متطرفة للتوبة، ثم ذهب في رحلة حج إلى روما كجزء من بعثة الدير الخاص به، لكنه انزعج من الفساد الذي رآه هناك. إذن، ذهب لوثر إلى روما ليجد خلاصا من معاناته، فإذا بها تزيد لأن الفساد طال البابا ومن حوله.

كان البابا ليون العاشر (1513-1521) يبيع "صكوك الغفران" لأجل إصلاح كنيسة القديس بطرس، وكان لوثر يرفض صكوك الغفران، وكان أمير مقاطعة ساكسونيا فريدريك الحكيم (1486-1525) يعارضها كذلك، وكان يظن أنها بغرض إثراء إيطاليا على حساب ألمانيا، خاصة أن أتباعه سيرسلون الأموال في النهاية إلى روما للحصول على هذه الصكوك، فمنع رهبان طريقة الدومينيكان الكاثوليك من دخول ساكسونيا، وكان لوثر يعيش فيها.

لاهوتيا أرادت جامعة فتنبيرغ الألمانية أن تجري مناظرة حول الصكوك واختارت لوثر ممثلا عنها، لكن بما أن الدومينيكان ممنوعون من دخول ساكسونيا، فلم تجر المناظرة، لكن لوثر عشية عيد "جميع القديسين" 31 أكتوبر/ تشرين الأول عام 1517، أعلن حججه وعلقها على باب كنيسة القلعة في فتنبيرغ، وقد أصبح هذا اليوم تاريخ احتفال الكنائس القديمة وبعض الكنائس الإنجيلية المصلحة الآن كنقطة انطلاق للإصلاح وبدايته.

قواعد لوثر الـ95

عرفت احتجاجات لوثر بالقواعد الـ95، وفيها انتقد صكوك الغفران بشدة، وأعلن عقيدة "التبرير بالإيمان"، ويلاحظ أنه كتبها باللغة اللاتينية ليشير إلى أنها موجهة للمعنيين برسالته فقط، وليست دعوة لتهييج المجتمع، أو إعلانا منه بأنه يريد الخروج على الكنيسة، بل كانت رسالته مجرد محاولة إصلاح لها.

ترجمة لوثر للكتاب المقدس جعلته في متناول جمهور أوسع بكثير (غيتي)

قام بعض تلامذة لوثر بترجمة هذه القواعد إلى اللغة الألمانية وانتشرت بسرعة كبيرة، وأرسل أسقف ألمانيا رسالة منها إلى البابا ليون العاشر، وتم بحث القواعد، وطلب منه سحبها، لكنه رفض، ودعي لوثر إلى مجمع الرهبان في هايدلبيرغ، لكنه لم ينجح في إقناع الرهبان بآرائه، وأرسل لوثر خطابا إلى البابا يشرح فيه آراءه ويؤكد خضوعه لسلطة الكنيسة، ورغم ذلك فقد صدر قرار بمحاكمته في روما.

صدر قرار بحرمان مارتن لوثر من الوعظ والتدريس وحرق كتبه عام 1520، وهو العام الذي أصدر فيه كتابه الأهم "حرية المسيحي" وكان مرفقا في رسالة إلى البابا ليون يشرح فيها آراءه كمحاولة لحل الخلاف بينهما.

وتعتبر القضية الأساسية في الكتاب شرح عقيدة "التبرير بالإيمان"، لكنه حمل بعضا من الأسس التي تدعو لفصل سلطة البابا الروحية عن الشؤون الدنيوية، ففي الفقرة الـ14 من رسالته يقول لوثر "فإنه (البابا) الملك والكاهن الحقيقيين، ولكن ليس على الطراز الجسدي والعالمي، لأن مملكته ليست من هذا العالم (يوحنا 18:36) وليست مملكته في أمور عالمية، لكنه يملك على الهبات السماوية والفضائل الروحية ويكرسها".

نسخة من أطروحات مارتن لوثر الـ 95 المطبوعة في بازل عام 1517 (غيتي)

وفي الفقرة الـ17 ينتقد ممارسات مسؤولي الكنيسة "ربما أنت سائل: لو كان كل المسيحيين الذين في الكنيسة كهنة أين كان الفرق بين الكهنة والعلمانيين؟ وجوابي هو أن استعمال الكلمات "الكاهن" و"الإكليركي" و"الخادم الروحاني" و"الكنسي" وما أشبه ذلك هو استعمال قد ألحق الأذى بهذه الأسماء وجار عليها، إذ هي أسماء خاصة بجميع المسيحيين أصلا، لكنها نزعت عنهم وألحقت بتلك القلة من الناس ممن يدعون اليوم "بالكنسيين".

الخلاف والإلهام والثورة

تسببت تلك الكتابات في تعميق الخلاف مع لوثر، وتمت دعوته إلى مجلس الأمة الألماني في فورمس عام 1521، وخشي عليه رفاقه أن يقابل مصير جون هس -وكان لوثر متأثرا به- فقال "إنهم استطاعوا قتل يوحنا (جون) هس (مفكر ديني تشيكي اتهم بالهرطقة وأعدم حرقا عام 1415)، ولكنهم لم يستطيعوا قتل الحقيقة".

ثم ذهب لوثر تحت حماية ناخب سكسونيا الأمير فريدريك، الذي طلب من الإمبراطور الروماني تشارلز الخامس (1519-1556) عدم المساس بلوثر ومحاكمته في ألمانيا، وفي فورمس رفض لوثر التراجع عن كتبه، وتوجه بعدها إلى فيتنبيرغ بناء على عهد الأمان الذي قطعه الإمبراطور لفريدريك، وأثناء توجهه اختطفته مجموعة من الفرسان تابعة لفريدريك، وأودعوه في قلعة الفارتبورغ وغيروا اسمه لحمايته، وظل فيها قرابة عام، وخلال هذه الفترة بدأ بترجمة الكتاب المقدس، لينقل نصوص الكتاب من الكهنة إلى عموم الناس، وليقوم بأكبر خدمة للغة الألمانية.

اعتبرت كتابات لوثر ملهمة للكثير من البسطاء، واندلعت ثورة الفلاحين عام 1524، لكن لوثر لم يدعمها ووصفهم بـ"الفلاحين المخربين الذين يسفكون الدماء"، فتقابل جيش مكون من الكاثوليك واللوثريين، واستخدموا كامل ترسانتهم من الأسلحة بما فيها المدافع، ليذبح جيش الفلاحين تقريبا، وتم القضاء على هذه الحركة عام 1525.

وفي ظل الأزمات التي كان يعانيها الإمبراطور تشارلز وتوسع السلطان العثماني سليمان القانوني في أوروبا، فإنه لم يكن متفرغا للخلاف الديني في ألمانيا، فعقد اجتماع سبير عام 1526، وكان متسامحا مع اللوثريين واعترف بهم، مما سهل له هزيمة الجيش العثماني، كما حاصر البابا الذي كان يعاديه، فاضطر البابا كلمنت الخامس إلى أن يوقع معاهدة صلح معه، ثم قام الإمبراطور في مجلس سبير عام 1529 بإلغاء قرارات مجلس 1526، فاحتج اللوثريون وسموا بالبروتستانت.

وسط مدينة فيتنبرغ حيث عقد مارتن لوثر أول قداس عام في الساحة (غيتي)

ثم عقد اجتماع آخر في أوغسبيرغ 1530 بحضور ممثلي الدولة والكنيسة، الكاثوليك والبروتستانت، ولم يذهب لوثر إلى الاجتماع لأنه كان محكوما عليه بالنفي ولا يمكنه الخروج من منطقة ساكسونيا، وتلا ملنكتون تلميذ لوثر إقرار الإيمان المكون من 28 بندا، واتفق الفريقان على قبول 21 بندا منه، ويعتبر إقرار أوغسبيرغ أساسا للعقيدة الإنجيلية اللوثرية، لكن في النهاية ساهم إقرار أوغسبيرغ في تثبيت الانقسام بين الكنيستين؛ الكاثوليكية والبروتستانتية.

دعوات الإصلاح

تجدر الإشارة إلى أن دعوات الإصلاح للكنيسة لم تخرج فجأة على يد لوثر، بل سبقته دعوات متكررة، ولعل أبرزها كان لجون ويكلف 1330-1384، وجون هس 1370-1415، إلا أن أفكارهما بقيت تتهيأ لحظة مواتية لتنتشر، وهو ما جرى بعد قرن على يد الراهب الألماني مارتن لوثر الذي ساعدته الظروف لدعوته، سواء على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي أو حتى الانقسام السياسي داخل الإمبراطورية الرومانية المقدسة.

كذلك تزامنت مع دعوة لوثر دعوات إصلاحية أخرى، مثل زوينجلي (1484-1531) الذي انتشرت أفكاره في جنوب الإمبراطورية وكانتونات سويسرا، وقتل في معركة ضد الكاثوليك وقطعت أوصاله وحرقت مع الروث.

كما آمن الفرنسي جون كالفن (1509-1564) بالأفكار الإصلاحية، لكنها كانت مطبوعة بوجهة نظره هو، لا وجهة نظر لوثر، وقد كانت جنيف السويسرية مركز أفكاره، ويلاحظ أن الانقسام البروتستاني مرتبط بشكل أساسي حول الإفخارستيا (العشاء الرباني)، وهي مسألة لاهوتية تتعلق بتناول الخبز والنبيذ، وتفسير حلول جسد المسيح في المأكول أو المشروب.

عداوات

في ظل العداوات والحروب بين الكاثوليك والبروتستانت، قامت عدة مناظرات بين عامي 1540 و1541، لكن الخلافات كانت أكبر من الحل.

ثم قرر البابا بولس الثالث (1534-1549) أن يعقد محاولة أخيرة للإصلاح، فدعا إلى مجمع عام 1542، وهو المجمع الذي سيعرف بعد ذلك بمجمع ترنت (Council of Trent)، لكنه في العام نفسه بدأت محاكم تفتيش ضد الهرطقات البروتستانتية، مما كان سببا طبيعيا لإفشال النقاشات.

كما أن المجمع نفسه لم ينعقد إلا في نهاية 1545؛ نظرا للخلاف حول مكان انعقاده، فقد أراده بولس الثالث في إيطاليا، وأراده الإمبراطور تشارلز الخامس في أراضي الإمبراطورية الرومانية المقدسة، واتفقا في النهاية أن يكون في ترنت، التابعة لأراضي الإمبراطورية، لكنها تقع على حدود إيطاليا معها، واستمر المجمع ينعقد بصورة متقطعة حتى عام 1563، لكن مارتن لوثر مات في العام التالي من بداية انعقاد المجمع، عام 1546.

صاغ لوثر أطروحاته الداعية لإصلاح الكاثوليكية في فيتنبرغ وعقد أول قداس باللغة العامية في كنيسة سانكت ماريان (غيتي)

ظلت الخلافات بين الكاثوليك والبروتستانت مشتعلة، واندلعت الحروب بينهما، وكانت الحروب الدينية التي اندلعت عام 1618 هي الأشد على الإطلاق واستمرت 30 عاما، لتنتهي بصلح فستفاليا عام 1648.

ومن بنود هذا الصلح، إقرار المذهب البروتستاني كعقيدة معترف بها إلى جانب المذهب الكاثوليكي، والتأكيد على شروط أوغسبيرغ 1555، والاعتراف بالمذهب الكلفني.

واتفق الطرفان على عدم فرض الأمراء الألمان على أتباعهم ورعاياهم أي دين أو مذهب وترك الحرية لهم في اختيار المذهب، كما أقروا إعادة تنظيم المجلس الإمبراطوري بنسبة واحدة بين الكاثوليك والبروتستانت.

وأضافوا شرط عدم تغيير أي من الأمراء الألمان لدينه، وبخلاف ذلك يعرض نفسه إلى فقدان أرضه التي ستصادر، وجرى كذلك الإعلان رسميا عن استقلال هولندا وسويسرا، فضلا عن إعادة تقسيم جغرافي لبعض المناطق بين السويد وألمانيا وفرنسا.

أنهت اتفاقية فستفاليا الصراع الديني في أوروبا، كما كانت تعد نهاية لعصر الإصلاح الديني، إذ أصبح الوضع الديني واضحا ومنصوصا عليه، كما تعد أول اتفاق دبلوماسي في العصر الحديث، وظهر التمثيل الدبلوماسي وتبادل السفراء، وقامت العلاقات الدولية بين تلك الدول على أساس المساواة والسيادة، كما ظهر القانون الدولي على يد الفقيه الهولندي غروتيوس أثناء الحرب عندما ألف كتابه "قانون الحرب والسلام".

المصدر : الجزيرة