شعار قسم مدونات

صراع الأخلاق.. تاريخ الماسونية (25)

A curator holds a copy of the first masonic book published in the U.S. entitled "The Constitutions of the Free-masons" by James Anderson, and published by Benjamin Franklin in 1734, during a media viewing a Freemasons' Hall in London June 28, 2011. The exhibition "The Patriot Mason: Freemasonry in American Society" opens on July 4 and will run until December 22. REUTERS/Paul Hackett (BRITAIN - Tags: SOCIETY)
نسخة من أول كتاب ماسوني نُشر في الولايات المتحدة بعنوان "دساتير الماسونيين" لجيمس أندرسون (رويترز)

الخوض في تاريخ الماسونية أمر معقد وشائك، لما ينطوي عليه من التناقضات والتفسيرات والتأويلات والشكوك والمعايشات الفردية والمواقف المعادية. وقد قدّم كتاب دساتير الماسونيين الأحرار 1723م عرضًا موجزا لتاريخ الماسونية، ربما يكون الأقرب إلى الدقة من غيره من المصادر، لأنه كُتب بأيديهم، ويعبّر بلسانهم عن رؤيتهم.

وقد أشرنا في المقال السابق إلى احتفال الحركة الماسونية في جميع أنحاء العالم هذا العام بذكرى مرور 300 عام على إعداد كتاب الدساتير، وسنقدم تعريفا بهذا الكتاب نظرا لأهميته في توضيح مفهوم الماسونية وتاريخها وتعليماتها ولوائحها العامة، وفي الاقتراب من التصور الحقيقي لحجمها ونفوذها إلى يومنا هذا، ومن ثمّ علاقة ذلك بالتغيرات السياسية والفكرية والاجتماعية التي صاحبت القرون الثلاثة التي سبقت الكتاب والقرون الثلاثة التي أعقبته.

تم تجميع وإعداد دستور 1723 من السجلات القديمة، كما تم التحقق من مدى دقة مقارنة كل شيء، وجعله متوافقا مع التاريخ والتسلسل الزمني، وذلك لجعل هذه الدساتير الجديدة بمثابة حساب عادل ودقيق للماسونية من بداية العالم.

حول الكتاب

لم يخف الكتاب انحيازه الشديد لليهود، وتحامله المبدئي على الإسلام والمسلمين، الذين أشار إليهم المؤلف في موضعين متهما إياهم بأنهم غزوا البلاد من حولهم بالسيف والرمح وليس بالعلم والبناء. وقد جاءت النسخة الأصلية من الكتاب في 100 صفحة، مكتوبة بخط اليد، وقد أعدّه القس جيمس أندرسون (1690-1739م) راعي الكنيسة المشيخية في أسكتلندا، قبل أن ينتقل إلى لندن ليشغل منصب رئيس المحفل الماسوني الكبير.

وجميس أندرسون بروتستانتي عالم بالتوراة والإنجيل، وصاحب كتاب "الوحدة في الثالوث والثالوث في الوحدة" الذي يدافع فيه عن الثالوث ضد دعوة التوحيد. تم تكليف أندرسون عن طريق محفل لندن بإعداد الكتاب، الذي صدر عام 1723 بالتاريخ الميلادي، وعام 5723 بالتاريخ الماسوني، الذي يسبق التاريخ الميلادي بأربعة آلاف سنة. صدر دون أن يحمل اسم مؤلفه، بعد خمس سنوات من تأسيس أول محفل رسمي للماسونية في لندن عام 1717م.

اشتمل الكتاب على قسمين رئيسيين، الأول يقدم تعريفا بتاريخ الماسونية، والثاني يحتوي على التعليمات والالتزامات واللوائح العامة التي يجب أن يتقيد بها المنتمون للحركة الماسونية. وقد كتب مقدمة الكتاب جون ثيوفيلوس ديساغوليرز (1683-1744م)، السيد الأعظم الثالث للمحفل الماسوني الكبير المتحد في لندن، ونائب السيد الأعظم لثلاث دورات لاحقة، والمقدمة موجّهة للأمير جون مونتاغ (1690-1749م) الدوق الثاني لـ"مونتاغ" في بريطانيا، والرئيس الأعظم للمحفل الكبير المتحد في لندن. وقد جاء في المقدمة أن المؤلف بذل جهدا كبيرا، وعانى عناء شديدا في تجميع وإعداد هذا الكتاب من السجلات القديمة، والتحقق من مدى دقة مقارنة كل شيء، وجعله متوافقًا مع التاريخ والتسلسل الزمني، وذلك لجعل هذه الدساتير الجديدة بمثابة حساب عادل ودقيق للماسونية من بداية العالم.

جاء القسم الأول من الكتاب تحت عنوان "الدستور" (التاريخ والقوانين والالتزامات والتعليمات واللوائح والأعراف) للعبادة الأخوية الصحيحة للمقبولين من الماسونيين الأحرار، مع توضيح أن مادة الكتاب جمعت من سجلاتهم العامة وتقاليدهم المخلصة على مرّ العصور، كي تتم قراءتها عند قبول الأعضاء الجدد، عندما يبدأ السيد أو المراقب، أو يأمر بعض الآخرين بقراءتها.

ربط مؤسسو الحركة الماسونية الأوائل بطريقة ذكية بين حركتهم وبين هندسة البناء كأساس يلتقي عليه البشر في جميع أنحاء العالم ممن يعملون في البناء بكل مجالاته، وممن بيدهم قرار البناء، وممن ينفق عليه، وممن يعشق فنه وجمالياته، فربطوا تاريخ الماسونية بتاريخ الخليقة، معتبرين سيدنا آدم عليه السلام أول البنائين الماسونيين.

الماسونية منذ سيدنا آدم حتى النبي موسى

كلمة الماسونية مأخوذة من الكلمة اللاتينية (Mason)، وتعني البنّاء أو العامل الذي يعمل في البناء وقطع الحجارة. ومنها جاءت كلمة (Freemason) أي البنّاء الحر، وتشير كلمة (Masonry) إلى حرفة البناء أو الماسونية، وقد ربط مؤسسو الحركة الماسونية الأوائل -الذين لا يُعرف من هم- بطريقة ذكية بين حركتهم وبين هندسة البناء كأساس يلتقي عليه البشر في جميع أنحاء العالم ممن يعملون في البناء بكل مجالاته، وممن بيدهم قرار البناء، وممن ينفق عليه، وممن يعشق فنه وجمالياته.

ومن هنا ربط الكتاب تاريخ الماسونية ببداية تاريخ الخليقة، معتبرا سيدنا آدم عليه الصلاة والسلام أول البنائين الماسونيين، فيذكر الكتاب أن الله سبحانه وتعالى هو المهندس العظيم للكون، الذي وضع في قلب آدم العلوم المختلفة، ولا سيما الهندسة. وقام آدم بتعليم هندسة البناء لأبنائه، وأرشدهم إلى كيفية استخدامها، ليستفيد منها ابنه قابيل في بناء المدينة التي عاش فيها مع ذريته، كذلك فعل شيث (الابن الثالث لسيدنا آدم) الذي علّم أبناءه الهندسة والبناء. فالهندسة، حسب مؤلف الكتاب، هي أساس كل العلوم، وخاصة البناء والعمارة.

ومن هذا المنطلق يمضي الكتاب قدما في استعراض تاريخ البشرية باعتباره تاريخ الهندسة والعمارة والبنائين، ليقرر أن الماسونية قديمة قدم البشرية، فهذا سيدنا نوح عليه الصلاة والسلام يطيع أوامر الله ويبدأ بتنفيذ أمره ببناء السفينة العظيمة، وفقا لمبادئ الهندسة الرياضية، ووفقًا لقواعد البناء (أي الماسونية حسب الكتاب).

ويشير الكتاب إلى أن أبناء نوح عليه السلام كانوا من بعده كذلك بنائين ماسونيين حقيقيين، استفادوا من الهندسة في بناء مدينة وبرج كبير ذي ارتفاع هائل استغرق بناؤه 53 عاما. وقد نقلوا معهم هذه المعرفة إلى أجزاء بعيدة من الأرض، لبناء ممالكهم وأماكن معيشتهم، والتي تم الحفاظ عليها بشكل خاص في مناطق شنعار وآشور، وكان من هذه المدن إريك وأكاد ونينوى في بلاد ما بين النهرين دجلة والفرات، حيث ازدهر العديد من الكهنة والمتعلمين والملوك والرجال العظماء الذين شجعوا الفن الملكي وحافظوا على العلم النافع والهندسة. وهنا يتوقف المؤلف ليذكر أنه "ليس من الملائم التحدث بشكل أكثر وضوحًا عن المباني، إلا في محفل منعقد"، دون أن يوضح أسباب ودوافع ذلك.

ثم يذكر المؤلف الذي لا علاقة له بالهندسة ولا بالبناء، أن علم الهندسة والبناء انتقل إلى العصور اللاحقة، رغم اختلاف لغاتها ولهجاتها، مما جعل أعمال البناء تأخذ شكل الممارسات العالمية القديمة التي يتحدث بها الناس دون التحدث، ويعرف بعضهم بعضا عن بعد، مع الحفاظ على خصوصية البناء في كل منطقة. في إشارة واضحة إلى البعد العالمي للماسونية التي تحولت مع مرور الوقت إلى تنظيم شبكي يغطي الكرة الأرضية، فبعد الطوفان بحوالي 160 عاما فاض نهر النيل في مصر مما تسبب في انتعاش الزراعة وتوافد البشر للاستيطان على ضفافه، مما أدى إلى تحسن علم الهندسة وزيادة الطلب على البنائين، فكانت الأهرامات التي تعتبر أولى عجائب الدنيا السبع على مستوى العالم.

وقد قام الأبناء العظماء الأحد عشر لكنعان، أصغر أبناء حام بن نوح عليه السلام، بتحصين أنفسهم خلف أسوار قوية، وبنوا مدنا فخمة ذات أسوار، وأقاموا أجمل المعابد والقصور، وكذلك فعلوا في جنوب الجزيرة العربية وغرب أفريقيا. وكذلك فعل أبناء سام بن نوح، ومن نسلهم سيدنا إبراهيم عليه السلام وأبناؤه من بعده، الذين انشغلوا في البداية بالعمارة العسكرية، قبل أن يقوم المصريون بتدريبهم على العمارة في الحجر والطوب، وعند مغادرتهم مصر، كانوا مملكة كاملة من البنائين (الماسونيين)، مدربين جيدًا، وفقًا لسلوك سيدهم الأعظم موسى (عليه السلام)، الذي كان ينظمهم غالبًا في محفل عام، وكان يملي عليهم تعاليم وأوامر حكيمة.

وهنا لابد من التنبيه إلى قيام المؤلف باستخدام مصطلحات الماسونية اللاحقة في عرضه لتاريخ البناء في الأمم السابقة، فالنبي موسى عليه السلام هو السيد الأعظم، واجتماعه بأتباعه هو انعقاد للمحفل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.