شعار قسم مدونات

صراع الأخلاق.. من يحكم العالم؟ (24)

A curator holds a copy of the first masonic book published in the U.S. entitled "The Constitutions of the Free-masons" by James Anderson, and published by Benjamin Franklin in 1734, during a media viewing a Freemasons' Hall in London June 28, 2011. The exhibition "The Patriot Mason: Freemasonry in American Society" opens on July 4 and will run until December 22. REUTERS/Paul Hackett (BRITAIN - Tags: SOCIETY)
نسخة من أول كتاب ماسوني نُشر في الولايات المتحدة بعنوان "دساتير الماسونيين" لجيمس أندرسون (رويترز)

نواصل الحديث من جديد حول صراع الأخلاق، لنتتبع مراحله ومساراته ورواده والتغيرات التي طرأت عليه في القرن الـ19، بعد أن استعرضنا في هذه السلسلة كيف تغيرت النظرة للأخلاق عند الغرب على مر العصور، مرورا باليونان والرومان والعصور الوسطى ثم عصر التنوير الذي امتد على مدار القرنين الـ17 والـ18 الميلاديين.

ورأينا كيف شهدت النظرة للأخلاق انحرافا شديدا في القرن الـ18، وبالذات في النصف الثاني منه، حيث ساد تقديس العقل والعلم، على حساب المقدسات الدينية، التي لم تعد تشكل أي مرجعية للأخلاق، بعد أن أصبحت المرجعية العقل والعلم.

واكتشفنا في النهاية أن الأفكار التي حملها عصر التنوير، والحراك العلمي والفلسفي الذي شهده، إنما كان بدعم وتوجيه وقيادة من الحركة الماسونية، التي انطلقت بقوة في المملكة المتحدة في القرن الـ17، وقامت بتأسيس الجمعية الملكية العلمية في لندن سنة 1660 برعاية الملك تشارلز الثاني (الماسوني)، ثم أسست أول محفل ماسوني رسمي لها في العالم في لندن أيضا عام 1717، وهو المحفل الماسوني الكبير في لندن، ليكون المنطلق الفكري والسياسي والعلمي للحركة الماسونية في العالم.

إن التنظيم الشبكي الدقيق للحركة الماسونية، يجعلنا نقف على حقيقة راسخة مفادها أنها ليست مجرد حركة سرية باطنية غامضة، وإنما تنظيم شبكي فكري سياسي اقتصادي أمني صارم يتحكم في المفاصل الرئيسية للحراك الدولي، ويهيمن على مراكز القوة الكبرى في العالم

وقبل أن نشرع في تناول صراع الأخلاق في القرن الـ19، يتوجب علينا الوقوف قليلا مع حدث كبير يجري التحضير له والتفاعل معه على مستوى العالم المشغول بأزماته وصراعاته وحروبه ومؤامراته، وهذا الحدث هو الاحتفال بالذكرى المئوية الثالثة على إصدار ما يُعرف بـ "الدساتير الماسونية". فقد تابعنا في المقالات الأربعة السابقة من هذه السلسلة كيف نجحت الحركة الماسونية أواخر القرن الـ18 في السيطرة على أكبر كيانات سياسية غربية موجودة أواخر القرن الـ18، وهي بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا، وكان لها اليد الطولى في إدارتها وتوجيهها، على شتى الأصعدة والمستويات.

ولنا أن نتخيل ماذا يعني ذلك على مستوى السيطرة والتحكم والنفوذ والتوسع والانتشار، وهو ما سيتجلى لنا جيدا بوقوفنا عند هذا الحدث الذي سيكشف لنا حجم الدور الذي تقوم به الماسونية في العالم.

المئوية الثالثة

تحتفل الحركة الماسونية على مستوى العالم هذا العام بمناسبة مرور 300 عام على إصدار أول دستور ماسوني رسمي سنة 1723، والمعروف بـ "دساتير 1723″، الذي أصبح فيما بعد المرجع الأساسي لدستور الولايات المتحدة وفرنسا والتشريعات والقوانين البريطانية، وغيرها من الدول الغربية، إضافة إلى كونه المرجع الأساسي للمحافل الماسونية في العالم.

في نهاية يناير/ كانون الثاني الماضي، شارك أكثر من 1600 شخصية ماسونية كبيرة في الاجتماع الخاص الذي أقامه المحفل الماسوني الكبير في لندن بهذه المناسبة، من بينهم ممثلون عن المحافل الماسونية الكبرى في أوروبا والولايات المتحدة. وقد جاء برنامج الحفل تحت عنوان "عنوان دساتير 1723: ابتكار المستقبل"، واشتمل على محاضرات للدكتور الماسوني ريك بيرمان، مؤلف كتاب "ابتكار المستقبل"، وأكرم إلياس المدير العام السابق للمحفل الماسوني الكبير في العاصمة واشنطن.

وقد ورد في وثائق تنظيم هذه الفعالية أن دساتير 1723 الماسونية "أعطت للعالم إعلانا جريئا للقيم بشكل مذهل، وشبه ثوري. فبعد إصدارها، أصبحت الماسونية ناقلا مهما لمبادئ التنوير، ونشرت بثقة مفاهيم التسامح الديني، والجدارة، وتحسين الذات من خلال التعليم وحتى الانتخابات الديمقراطية. وبمرور الوقت، انتشرت هذه الأفكار وتم تبنيها في جميع أنحاء أوروبا وأميركا، لتشكيل نماذج الحكم".

وتستمر الفعاليات الماسونية الاحتفالية بهذه المناسبة على مستوى العالم، حتى نهاية العام الجاري، في مقراتها وفي منصاتها الرقمية بصورة منقطعة النظير.

وتحت عنوان "ابتكار المستقبل" ينظم المحفل الماسوني الكبير في لندن أواخر سبتمبر أيلول القادم، مؤتمرا على مدى 3 أيام في كلية الملكة بجامعة كامبريدج البريطانية، يشارك فيه نخبة واسعة من المتحدثين الماسونيين والأكاديميين.

كما ينظم المحفل معرضا مفتوحا حتى نهاية العام الجاري، للتعريف بنشأة الماسونية وتطورها وانتشارها، ومساعدة الباحثين والمؤلفين والأكاديميين والصحفيين من جميع أنحاء العالم، للحصول على المواد التي تلزمهم لاستكمال أبحاثهم ودراساتهم وتلبية اهتماماتهم. ويعبر ذلك عن التوجه الجديد الذي اتخذته الحركة الماسونية في السنوات الأخيرة، لكشف أسرارها، وإزالة الغموض الذي يحيط بها، والدفاع عن الاتهامات الموجهة إليها كونها أقدم منظمة سرية عرفها التاريخ، ما زالت تعمل وبقوة حتى الآن.

وقد أدت هذه الاتهامات إلى انخفاض عدد المنتمين إلى الماسونية في العقود الأخيرة من 4.1 ملايين عضو عام 1960م إلى 1.3 مليون عضو عام 2012 في الولايات المتحدة على سبيل المثال. وتعتبر العضوية مصدرا ماليا أساسيا للمحافل الماسونية على مستوى العالم، حيث يلتزم الأعضاء بتقديم اشتراكات شهرية ثابتة، بالإضافة إلى التبرعات الطوعية، التي تزيد على مليوني دولار يوميا يتبرع بها أكثر من مليوني عضو ماسوني في الولايات المتحدة على سبيل المثال. وقد أنفقت المؤسسة الماسونية الخيرية البريطانية وحدها في السنة المالية 2021-2022 حوالي 20 مليون جنيه إسترليني على مشروعاتها.

وفي الاتجاه نفسه، تعمل الحركة الماسونية حاليا على تحميل وثائقها التاريخية على الإنترنت لتكون متاحة مجانا للجمهور بمختلف أطيافه. وتصنفها تحت مجموعة واسعة من الموضوعات تشمل السير الذاتية والسود والآسيويين والمنظمات الخيرية والاستعمار والموضة والترفيه والرياضة والمسرح والمجوهرات والشبكات الاجتماعية والعلوم والتكنولوجيا والسيراميك والبروسيلين والتاريخ والفلسفة والدين والنشر، وغير ذلك.

قبل 5 سنوات قامت الحركة الماسونية باحتفال مماثل على مستوى العالم، بمناسبة الذكرى المئوية الثالثة لتأسيس المحفل الماسوني الكبير المتحد في لندن عام 1717، حيث نظم المحفل احتفالا كبيرا حضره أكثر من 300 شخصية ماسونية قيادية. صاحبها احتفالات مماثلة شارك فيها أكثر من 4 آلاف ماسوني في 136 محفل كبير حول العالم. وقد تم بث الاحتفال الرئيسي على الهواء مباشرة ليصل إلى جميع الأعضاء المنتسبين إلى الحركة الماسونية والبالغ عددهم وقتها أكثر من 6 ملايين عضو، منهم حوالي 200 ألف عضو في بريطانيا.

وتحاول الحركة الماسونية العالمية الاستفادة من ذكرى المئوية الثالثة لإصدار دساتير 1723، في تجديد نشاطها وتوسيع عضويتها، وتحسين صورتها والانفتاح بصورة أكبر على قطاعات المجتمع بمختلف ألوانهم وأجناسهم وأعراقهم وميولهم واتجاهاتهم.

تحتفل الحركة الماسونية على مستوى العالم هذا العام بمناسبة مرور 300 عام على إصدار أول دستور ماسوني رسمي سنة 1723، الذي أصبح فيما بعد المرجع الأساسي لدستور الولايات المتحدة وفرنسا والتشريعات والقوانين البريطانية، وغيرها من الدول الغربية، إضافة إلى كونه المرجع الأساسي للمحافل الماسونية في العالم

الانتشار الكبير

يعتبر المحفل الماسوني الكبير في دولة أو إقليم أو مقاطعة أو مدينة ما، الهيئة الحاكمة للحركة الماسونية في جميع المحافل الكائنة فيها، ويعتبر المحفل الماسوني الكبير المتحد في لندن، بمثابة المحفل الأم للماسونية في العالم. وقد بلغ عدد المحافل الكبيرة في العالم، التي يعترف بها محفل لندن، 220 محفلا، منها 42 محفلا كبيرا في أوروبا، لا تخلو منها دولة، و19 محفلا في أفريقيا، و5 محافل في آسيا، في كل من الصين والهند والفلبين واليابان وإسرائيل، و7 محافل في أستراليا ونيوزيلندا، و11 محفلا في كندا، و86 محفلا في الولايات المتحدة، و16 محفلا في دول أميركا الوسطى، و42 محفلا في دول أميركا الجنوبية. ويرجع انخفاض عدد المحافل في قارتي آسيا وأفريقيا إلى حظر الدول العربية والإسلامية النشاط الماسوني فيها، ولا يعني ذلك عدم وجود أعضاء فيها.

ويضم المحفل الماسوني الكبير المتحد في لندن حوالي 20 ألف عضو لهم عضوية عالمية في القارات الخمس. ويصل عدد المحافل الماسونية في العالم إلى حوالي 9 آلاف محفل، معظمها يخضع لسلطة المحفل الماسوني الكبير المتحد في لندن، ويصل عدد المحافل في بريطانيا إلى أكثر من 8 آلاف محفل.

ويحظر محفل لندن على جميع أعضائه الاتصال أو محاولة الاتصال بأي طريقة من الطرق بالمحافل الكبيرة التي يعترف بها عالميا، ويعتبر خرقا للمحفل، حيث حدد المحفل نظاما خاصا للاتصال بالمحافل الخارجية عن طريق السكرتير الأكبر للمحفل. وبشكل عام فإن المحفل الكبير المتحد في لندن لا يعترف إلا بمحفل كبير واحد في الدولة أو الإقليم، إلا في حالات استثنائية قد يعترف بمحفلين لأسباب محددة وتاريخية.

هذا التنظيم الشبكي الدقيق للحركة الماسونية يجعلنا نقف على حقيقة راسخة مفادها أنها ليست مجرد حركة سرية باطنية غامضة، وإنما تنظيم شبكي فكري سياسي اقتصادي أمني صارم يتحكم في المفاصل الرئيسية للحراك الدولي، ويهيمن على مراكز القوة الكبرى في العالم، عن طريق أعضائها، المنخرطين في كافة المناصب وأعلى الوظائف في شتى المجالات، والحديث في ذلك يطول، مما لا يتسع له مقام هذا المقال.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.