شعار قسم مدونات

الخضر حسين.. شيخ الأزهر الذي قدم استقالته لعبد الناصر!

الخضر حسين: إن الأزهر أمانة في عنقي أسلمها حين أسلمها موفورة كاملة وإذا لم يتأت أن يحصل للأزهر مزيد الازدهار على يدي فلا أقل من ألا يحصل له نقص (الجزيرة)

هو آخر من تولى مشيخة الأزهر الشريف من خارج مصر، وهو الذي تميزت حياته بالعلم الغزير والصدوع بالحق كلفه ما كلفه، حتى أنه كتب استقالة غير مؤرخة يوم تعيينه على رأس الأزهر من صورتين، احتفظ بإحداهما لديه، وأعطى الأخرى لمدير مكتبه، وقال له: "إذا رأيتني ضعيفا في موقف من المواقف فابعث الصورة التي معك إلى المسؤولين نيابة عني، وهذه مسؤوليتك أمام الله".

ولد محمد الخضر بن حسين في 16 أغسطس/آب 1876 بمدينة نفطة بالجنوب التونسي من عائلة ذات أصول جزائرية. وكانت نفطة موطن العلم والعلماء، حتى إنها كانت تلقب بالكوفة الصغرى لما فيها من جوامع ومساجد كثيرة. وكانت أسرته أسرة علم وأدب، فجده من أمه هو الشيخ مصطفى بن عزوز. وخاله الذي كان من أهم معلميه هو الشيخ المكي بن عزوز صاحب كتاب العقيدة الصغرى والعقيدة الكبرى. فنشأ الشيخ في هذه البيئة طالبا للعلم فحفظ القرآن، ودرس العلوم الدينية واللغوية، حتى أنه بدأ بنظم الشعر منذ سن الـ12.

لما شعر بتنامي ضغوط سلطات الاحتلال قرر الهجرة إلى إسطنبول حيث يقيم خاله الشيخ المكي بن عزوز سنة 1912. وكانت شهرته سبقته فأصبح مدرسا بين إسطنبول ودمشق

انتقل إلى تونس العاصمة مع أسرته في سن الـ13 ليدرس في جامع الزيتونة (أحد أهم منارات العلم في العالم الإسلامي حتى ذلك العهد) على يد فطاحلة مشايخها، ليتخرج سنة 1898، ويبدأ في إلقاء بعض الدروس في الجامع. وقام في أبريل/نيسان 1904 بإنشاء مجلة "السعادة العظمى"، التي كانت تصدر كل أسبوعين كأول مجلة باللغة العربية في تونس. تعرضت المجلة لهجوم من بعض المشايخ الجامدين، لأن الشيخ أيد فيها بقاء باب الاجتهاد مفتوحا، كما كانت المجلة تتسم بالنقد البناء واحترام التفكير المتجدد، فلم تصمد أكثر من 21 عددا.

في عام 1905 تولى منصب قاض شرعي بمدينة بنزرت -شمال تونس- بتشجيع من صديقه الإمام محمد الطاهر بن عاشور. لكنه سرعان ما استقال وعاد للتدريس بجامع الزيتونة وقائما على خزائن كتبه. كما درس بالمدرسة الصادقية (المعهد الثانوي الوحيد في تونس في ذلك الحين). طلبت منه سلطات الاحتلال الفرنسي أن ينظم إلى المحاكم الفرنسية لكنه رفض، ولم يخف موقفه من الاحتلال، فاتهم بمعاداة فرنسا.

فلما شعر بتنامي ضغوط سلطات الاحتلال قرر الهجرة إلى إسطنبول حيث يقيم خاله الشيخ المكي بن عزوز سنة 1912. وكانت شهرته سبقته فأصبح مدرسا بين إسطنبول ودمشق. وسافر لعدة بلدان أوروبية، منها ألمانيا حيث بقي 9 أشهر. وكان يعرف بالقضية التونسية أينما حل، مما جعل القضاء الفرنسي في تونس يحكم عليه بالإعدام غيابيا بتهمة التحريض ضد فرنسا.

بعد سقوط الشام في أيدي الفرنسيين قرر الهجرة إلى القاهرة سنة 1920 والاستقرار فيها. إذ وجد فيها الحظوة والترحاب والتقدير. وحذف "بن" من اسمه على الطريقة المشرقية، وغلب عليه الخضر عوضا عن الأخضر، فأصبح يعرف باسم محمد الخضر حسين. عمل مصححا بدار الكتب المصرية، وكتب عدة مؤلفات جعلته محل تقدير واحترام من علماء الأزهر والأدباء كأحمد تيمور وحتى من فؤاد الأول ملك مصر. وقد ذاع صيته بعد أن نشر طه حسين كتابه المثير للجدل "في الشعر الجاهلي" فرد عليه الشيخ محمد الخضر حسين بتأليف كتاب "نقض كتاب في الشعر الجاهلي"، الذي اعتبر من أهم الردود عليه وأشدها حجة.

سنة 1954 قرر جمال عبد الناصر إلغاء المحاكم الشرعية وضمها إلى المحاكم المدنية فرفض الشيخ محمد الخضر ذلك وطالب بضم المحاكم المدنية إلى الشرعية وليس العكس. لكن أمام إصرار جمال عبد الناصر، قدم استقالته من مشيخة الأزهر

وقد ذاع صيته كذلك وعلمه حتى أصبح يدرس في الأزهر حيث يندر أن يدرس فيه غير الأزهريين. وترأس سنة 1931 رئاسة تحرير مجلة الأزهر. وفي سنة 1950 اختير عضوا لهيئة كبار العلماء. وتوج مسيرته سنة 1952 بأن تم تعيينه شيخا للأزهر، أعظم مؤسسة إسلامية في العالم الإسلامي، في حالة نادرة أن يتم تعين أحد غير مصري ولم يدرس فيه شيخا (وهو الحالة الأخيرة إلى اليوم). وقد قال الشيخ محمد الفاضل بن عاشور التونسي عند اختيار الشيخ محمد الخضر شيخا للأزهر: "ليحق لهذه الحقبة من التاريخ التي تظلنا أن تفخر بأنها بلغت فيها الصلات بين الأزهر والزيتونة أوجها، فقد احتضن الأزهر إماما من أئمة الأعلام، كان أحد شيوخ الزيتونة العظام".

في سنة 1954 قرر جمال عبد الناصر إلغاء المحاكم الشرعية وضمها إلى المحاكم المدنية فرفض الشيخ محمد الخضر ذلك، وطالب بضم المحاكم المدنية إلى الشرعية وليس العكس. لكن أمام إصرار جمال عبد الناصر قدم استقالته من مشيخة الأزهر وقال: "إن الأزهر أمانة في عنقي أسلمها حين أسلمها موفورة كاملة، وإذا لم يتأت أن يحصل للأزهر مزيد الازدهار على يدي، فلا أقل من ألا يحصل له نقص". توفي الشيخ يوم 28 فبراير/شباط 1958 بالقاهرة ودفن فيها. وقد ترك عدة مؤلفات أهمها "الحرية في الإسلام" و"الخيال في الشعر العربي" و"الرحلات" وغيرها، إلى جانب بحوث ومقالات عديدة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.