شعار قسم مدونات

بشائر رمضان.. ألا فتعرضوا لها

في رمضان ستكتشف عوالم جديدة غير ما اعتدته وتسمو الروح أمام ما يغتنمه الجسد والنفس من نصيب (رويترز)

بدأ العد التنازلي لرمضان، وها هي أزهاره تزداد فوحانا وطيبا كلما اقتربنا منه أكثر. شهر رمضان تتعدد معانيه بين شهر الصيام والتزهد في الأكل، شهر الرحمة وإعانة المحتاج، شهر القرآن وختمه، شهر العبادات والركض وراء مضاعفة الأجور، شهر اجتماع العائلة وتلاقي الأحباء وتبادل الأحاديث الممتعة والسمر، كل هذا هو رمضان وأكثر..

نبتغي فيه بأعمالنا بعد القطع والجفاء قربا ووصلا، ونرجو أمنا ينفث في الروع والقلق، شهر الدعاء نستطيل ونتعالى فيه طلبا وسؤالا، ونطمح فيه بالإلحاح والاجتهاد. منحة من الله عز وجل نستأنس بها في وحشة الواقع وخشونة الوقت، وهو بوصلة لكل حائر في مسعاه، تائه عن مبتغاه، تائب عن سوآه. نوصد فيه أبواب خلوة ساكنة صامتة دون الصخب والهرج يسكر فيها الشوق حد الثمل وتخشع على النفس الطمأنينة والامل. سكينة في جلل حرمه، في البدء تتبعثر الكلمات وتخرس البلاغة، أسبيل لقاطع مقصر مدبر مجاف مجحف؟ أسبيل لحياة بعد بوار وانتباه بعد سهو ونسيان؟ تدمع العين، ثم تنهال سدود البلاغة بفيض التعبير والبوح والوجد حتى لا يكاد المرء يعقل نفسه حينها، ولا انتهاء ولا تسليم حتى تنبت بذرة الإيمان في جوف الظلمة وخلاء الوحشة، فيرق القلب وتقبل النفس ويطيب الوصل.

هو شهر القلب بامتياز ودون ذلك هباء وهواء. القاطع عن الأكل والشرب لأجل الله، لا يشعر لا بخواء بطن ولا بجفاء الفم بل بجوع قلب وعطش نفس.

ولكن أين نحن من ذلك؟ ما نحن إلا تائهين في قلب صحراء مقطوعة، أبصروا بركة ماء في يوم قائظ وحارق، هرولوا دنوا وبدل أن يغترفوا ليشربوا أخذ كل منهم حفنة تراب وذرها على البركة واهتاجت شهوة الإفساد والجنون وطغت وطفت على شهوة الارتواء والبقاء.. على قيد الحياة ثم ما لبثوا إلا أن خسروا وأطبق على قلوبهم الندم.

نعود إلى معاني شهر رمضان، لم نذكر أن هذا الشهر الكريم عند البعض يعني موسم المسلسلات الماجنة والسهرات والحفلات الفاقدة لمعنى الحياء، ولم نذكر أيضا أنه عند البعض شهر الضغط النفسي والسب والشتم المعلل بالانقطاع عن الأكل والشرب وشهر الكسل والخمول والنوم صباحا والنهوض قبل الإفطار بقليل، وهو أيضا شهر التجويع حتى إذا حان وقت الإفطار صار الانقضاء على أشهى الأطباق وصنوف الأكلات بالالتهام وتعبئة الأجواف.. مجرد تغيير في التعامل مع الشهوة لا أكثر، تجويعها لإشباعها بأشهى ما يرضيها.

لا ننكر أن النفس لتهفو للرواح حين بعد حين، خصوصا بعد تعب يوم من الصيام والإرهاق أو في السهرة عندما يتلاقى نفوس الأحباء والأقرباء فتهفو إلى ما يبهج النفس

أيدنس رمضان؟

مساحة تتخفف فيها الروح من أدران الآثام التي تعلقت بها طيلة العام. وها هي شركات الإنتاج والمخرجين والمؤلفين يتسابقون في ركض محموم من أجل أن يخرجوا لنا الصورة الأكثر خلاعة وعريا وفحشا وابتذالا للأخلاق والأقوال، وتصحو فيه مفاهيم كحرية الجسد والحرية الجنسية من باب الاختلاف وضروب الأفكار الغربية الغريبة من هذه الفئة، ويقولون لنا ببساطة حمقاء "نحن ننقل واقعنا وحسب، ذلك واقعنا أليس كذلك؟" ألسنا في شهر فضيل لننسى فيه رذالة واقعنا البائس؟ ومن قال إننا ملائكة أو أنبياء أو صالحون؟ ما نحن إلا ساعين في نوايانا ونخطئ ونصيب. ولكن أليس لهذا الشهر قدسية وحرمة؟ ألم يقل فيه الله سبحانه وتعالى ﴿شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدىٰ والفرقان …﴾

ولا ننكر أن النفس لتهفو للرواح حينا بعد حين، خصوصا بعد تعب يوم من الصيام والإرهاق أو في السهرة عندما يتلاقى الأحباء والأقرباء فتهفو نفوسهم إلى ما يبهج النفس ويذكر بالقرب كسيرة السلف الصالحين والأنبياء الطاهرين والصحابة الأكرمين في مسلسل أو فيلم يوثق حياتهم وينبئنا دررهم. ورب عمل يجتمع فيه قيمة المحتوى الذي يسمو بالإنسان في كل أبعاده، وفن رائق بديع ليفعل بالمرء ما لا يفعله الواعظ الفقيه.

ورب مؤلف ومخرج وممثل وتقني يعمل على إقامة ونشر ثقافة إسلامية نقية طاهرة حافظة لحدود الله ما أراه إلا في مقام من قال عليهم صلوات الله عليه وسلامه ".. وصلوا بالليل والناس نيام"

لنحاول جميعا أن ننسى أنفسنا بعضا من الوقت أن ننساب وننقاد ونتخمر في أجواء رمضان وفي عاداته البهيجة، ذكرا وصلاة وقرآنا وتسبيحا واستغفارا وسعيا للخير وصحبة صالحة

لسنا ملائكة، لسنا مبرئين من الذنب، ولكن تعالوا نختار المعنى الصحيح السوي لهذا الشهر الفضيل ونتفق عليه، ونتهيأ له ونقبل عليه بكل ما فينا، ونغرف من عينه الكريمة بقدر استطاعتنا، ونحيي نفوسا راكدة مخافة التكدر والتعفن، ونغتنم الفرصة كي نتذكر أنا مسلمون، شيء ما يميزنا عن بقية العالم، ونحيي شعائرنا في أبهى صورة وعلى أكمل وجه ونحتفل ونحتفي به أمام العالم كله.

سنحاول جميعا أن ننسى أنفسنا بعضا من الوقت أن ننساب وننقاد ونتخمر في أجواء رمضان وفي عاداته البهيجة، ذكرا وصلاة وقرآنا وتسبيحا واستغفارا وسعيا للخير وصحبة صالحة. دعنا نغلق أبواب الشيطان ونسد عليه كل فوهة وثغرة وفجوة، ذلك الكائن الذي يكرهك ويغبط لضياعك وتيهك، فابذل قصارى جهدك، كل قوتك كي تصفده وتلجمه وتقصيه.

سترى أجمل ما فيك يرتوي من نبع كريم، وستكتشف عوالم جديدة غير العالم الذي اعتاده عالم تسمو فيه الروح أمام ما يغتنمه الجسد والنفس من نصيب فكرك وحرصك، تلك الروح التي لم تشهد انطلاقا وتحررا وانبثاقا لم تسمع صوتها ولا نبسها، أطلق عنانها في رمضان الآتي وحررها من معتقلها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.