شعار قسم مدونات

ما بين ألم الآن وأمل المستقبل

للصورة للفقرة التي تتحدث عن التطور العمراني والمدن الحديثة في كردستان (الجزيرة )
تحاول بعض الرؤى أن تمازج في آن واحد بين أولوية آلام الآن وأهمية وجود خارطة حضارية لأمل المستقبل وتحاول في ذلك الجمع والمزج تجنيد كل طاقة وفق قدرتها (الجزيرة)

لمّا شاركت صاحبي بعض خواطري حول الجهاد العمراني والفعل الحضاري رمقني قائلا "عجيب هذا الكلام ولمن تكتبه وواقع أمتنا أنها (من جانبها الآسيوي إلى طرفها الأفريقي) أكثر المناطق حروبا أهلية من بعد الحرب العالمية الثانية وفيها أعلى معدلات العنف السياسي والاجتماعي بالنسبة للفرد في العالم ناهيك عن واقع اقتصادي أليم، حيث حوالي ربع السكان من الفقراء ونصف السكان من الأميين، أضف إلى ذلك تجليات الاستبداد والفساد التي لا تخطئها عين". تركني ومضى وطفقت أقلّب في هذا الواقع الأليم وأتساءل، ما التوازن الدقيق بين الانهماك في ألم "الآن" والانشغال بأمل "المستقبل"؟ هل العلاقة بينهما تراتبية زمنية أم أن الجهة منفكة بينهما من حيث الطرح وخارطة العمل والفكر؟

أخذت أجول بناظري بين قليل الأمة الذي ينشغل بهم التغيير والإصلاح فوجدت القوم كثيرهم منشغل بـ"الآن" وقليلهم منشغل بـ"المستقبل"، فخطر لي أن دفع المفسدة المتحققة الآنية بالطبع مقدم على تحصيل المصلحة المظنونة المستقبلية، وأن الإنسان مفطور على التعلق بالمحسوس ولا يركن إلى الغيب عادة، وغير ذلك من تأويلات منطقية وواقعية بل وشرعية لهذا الانحياز تجاه "الآن" على حساب المستقبل. ولكن ظل السؤال يخامر ذهني.. هل من ناظم؟ هل من تصور يربط بينهما ويسد الفجوة ليدفع نحو تغيير مطلوب آني وبعث حضاري مرجو في المستقبل الوسيط والبعيد؟ دائما ما تنحو خلفيتي الهندسية نحو مقاربة مثل هذه الإشكاليات بالسبر والتقسيم (وهو بالطبع هنا ليس قائما على استقراء تام)، ولذا فمن الممكن رؤية العلاقة بين القضية محط النظر من خلال 3 رؤى عامة يندرج تحت كل منها بعض التقسيمات:

الرؤية الأولى

رؤية زمنية تتبنى الترتيب بمعنى التركيز أولا على رفع ألم الحاضر فلا يمكن لجائع أن ينتج فكرا، ولا يمكن لمستبد أن يقيم حضارة. وتستأنس هذه الرؤية بقراءة لنهضات معاصرة ركزت على محاربة مثلث الرعب أولا (الفقر، الجهل، المرض)، فلما أنجزت في هذا المضمار، قامت بدورها في الدورة الحضارية من إنتاج معرفي وتقني كسنغافورة وكوريا مثلا. وقد يستشكل البعض أن عديد هذه التجارب قد بدأ بمواجهة الألم الآني كما نسميه هنا ولكن في إطار رؤية نهضوية مستقبلية، فهو عمل آني مستبطن ومنطلق من أمل مستقبلي واضح وهنا يبدأ سجال آخر حول من يضع هذه الرؤية؟ أهي الدولة، أم مؤسسات المجتمع أم الأفراد أم الكل من خلال عمل تشاركي؟ ولهذا مقام وحديث آخر.

قطاع التنمية يحتاج إلى رؤية حضارية تنطلق من قيم أمتنا ولا تستنسخ النموذج الرأسمالي الذي أثبت إخفاقه في عديد من النواحي، وتضع هذه الرؤية إطار التنمية المبني على قيم الاستخلاف والعدل والحرية والإتقان وغيرها من نسق الثقافة التنموية للأمة

الرؤية الثانية

من الممكن تسميتها "الرؤية النسبية" بمعنى أن ترتيب وأولويات الجهد يتناسب ويختلف وفق الزمان والمكان وكذلك وفق الأشخاص. فواقع الأمة متباين من حيث درجة الألم الآني، فبعض الأماكن أشد بؤسا من بعض وبعضها القليل تجاوز هذه الآلام بقدر ما، وكذلك بعض الدول قد بدأت منطلقة في حوارها وبعض فعلها حول النهضة، وأخرى ما زالت تراوح مكانها ساعية وراء تركيم مادية حضارية لا تنتمي لها أصلا؛ ولذا فهي في أول السلّم الزمني للحضارة مهما بدا للناظر غير ذلك. هذه النسبية أيضا تسري على الأفراد في إطار القاعدة العامة "كلٌّ ميسّر لما خلق له"؛ فبعض الناس أوتي عقلا وقلبا ومهارة لا تبدع إلا في ميادين مدافعة الألم الآني بل لا تستوعب غير ذلك في بعض الأحيان، وكذلك هناك من رُزق قدرة على فهم الواقع المركب وتفكيكه ثم إعادة تركيبه لينشغل بوضع رؤية مستقبلية أو التنبيه على مزالق حضارية لا بد من تفاديها، فالحكمة تقتضي أن يقوم كل فريق بما يحسن وهنا مناط السجال المعروف بين منظري التغيير فيما يخص دور النخب والقواعد ومن أين يبدأ التغيير ومن يقوده ولكل وجهة نظر شواهدها من التاريخ القديم والحديث وأيضا ليس هنا مجاله.

الرؤية الثالثة

رؤية تحاول المزج والجمع من خلال نمذجة وأطروحات قطاعية بمعنى وضع خارطة تفصيلية تبدأ من رؤية ونموذج حضاري بعض ملامحه على الأقل واضحة، ثم تسارع بنمذجة وإسقاط هذا الطرح الحضاري قطاعيا حتى أرض الواقع؛ ليعالج آلام الآن من خلال أمل المستقبل. هذه الرؤية تختلف في دقتها وتفاصيلها وفق وضوح النموذج الحضاري ونضج آليات العمل الوسيط وعمق آلام الواقع المعاش في كل قطاع على حدة. فإذا أردنا أن نضرب مثالا، فقطاع التنمية مثلا يحتاج إلى رؤية حضارية تنطلق من قيم أمتنا ولا تستنسخ النموذج الرأسمالي الذي أثبت إخفاقه في عديد من النواحي فتضع هذه الرؤية إطار التنمية المبني على قيم الاستخلاف والعدل والحرية والإتقان وغيرها من نسق الثقافة التنموية للأمة، ثم بعد ذلك تنمذج بعض هذه الرؤى من خلال عمل على الأرض يحقق تنمية ترفع الإنسان وتحارب الفقر والجهل والمرض، وفي نفس الوقت تعكس هذه القيم في الفرد والمجتمع المستهدف من العمل التنموي. هذه الرؤية كما يبدو تحاول أن تمازج في آن واحد بين أولوية آلام الآن وأهمية وجود خارطة حضارية لأمل المستقبل وتحاول في ذلك الجمع والمزج تجنيد كل طاقة وفق قدرتها. ولا تخلو طبعا هذه الرؤية أيضا من سجالات شبيهة بسابقتيها من حيث دور الدولة والمجتمع والفرد في التفكير والتنفيذ وكذا مدى تقاطعها وتطابقها أحيانا مع الرؤى الأخرى.

حركة التغيير قد تساند كل فريق منحاز لأي من هذه الرؤى أو غيرها وهذا يدل على تعدد أنماط العمل والتغيير ولا يمكن لأحد أن يدعي أن هناك رؤية جامعة مانعة للتغيير وتأطير التوازن للجمع بين ألم الآن وأمل الغد

لعلي هنا أختم ببعض الملاحظات حول هذا الموضوع والذي بالطبع لم يحسم أصل الإشكالية بعد:

  • أولا: التوازن بين ألم الآن وأمل المستقبل في أدبيات التغيير يعد إشكالية عميقة وليس مشكلة والفرق بينهما أن المشكلة تقضي أن يكون الحل صعبا أو يتطلب بحثا علميا، أما الإشكالية فيكون الحل فيها صعبا لتعدده وأحيانا استحالته، وموضوعنا من هذا القبيل، فلا يمكن تصور طرح سهل بسيط من خلال مقال لحله وإنما الغرض هو بداية حوار حوله والدفع نحو خلق ميدان تفاعلي بين كل من أرقه واقع الأمة وحار حول واجب الوقت في الحراك للتغيير.
  • ثانيا: إن حركة التغيير قد تساند كل فريق منحاز لأي من هذه الرؤى أو غيرها وهذا يدل على تعدد أنماط العمل والتغيير ولا يمكن لأحد أن يدعي أن هناك رؤية جامعة مانعة للتغيير وتأطير التوازن للجمع بين ألم الآن وأمل الغد اللهم إلا سنة السنن وأم القوانين، وأقصد قانون الأسباب العام والذي بدوره يفتح باب النقاش حول ما هي الأسباب الواجبة للجمع والتوازن في التغيير وفق الزمان والمكان.

وأخيرا إن مجرد الحوار حول هذه الإشكالية والانشغال به لهو دليل حياة في جسد هذه الأمة، ولعل هذه الرؤى تكون إطارا أوليا ينضج بالممارسة والاشتباك مع الواقع ويزداد وضوحا وارتباطا مع الوقت بهوية الأمة وهدفها، فيخرج مشروعا حضاريا ونموذجا معرفيا جديدا يجمع أطياف الأمة لا ليصهرهم في بوتقة واحدة، فهذا مخالف لمراد الخالق من الاختلاف البناء؛ وإنما ليحفز كل أحد وجماعة نحو عطاء وإنتاج ونماذج تغيير الواقع وتضع أمتنا في مكانتها في دورة التاريخ وما ذلك على الله بعزيز.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.