شعار قسم مدونات

بلاد الرافدين وبلاد النيلين.. مسار التأزم

الذكرى العشرون لاحتلال العراق (رويترز)

على تباعد ما بينهما جغرافيًا واختلافهما عن بعضهما بعضا، إلا أن تلاقي السيف والقلم -الأيديولوجيا بنخبتها، والعسكرية بحسمها- صاغ تاريخ العراق والسودان معا، وتسبب هذا التلاقي في تشوهات مجتمعية خطيرة تفجرت في العراق بطريقة، وفي السودان بطريقة أخرى، لكن كيف هذا؟ سأحاول في ما يلي تقديم مشروع إجابة.

دعوى المركز والهامش في البلدين واحدة، في غياب تام للوعي بأسباب هذه المركزية، التي تتصل بقضايا ليست سياسية أو حتى دينية، فالموضوع متصل بتوافر التعليم، والتنمية، وقراءة التاريخ قراءة مبتورة بعقلية المركز والهامش تؤدي بالضرورة لقراءة موتورة تنفي الآخر، وتلغي حقه في البقاء بحجة المظلومية والتهميش المتراكم.

ففي السودان، كما في العراق، كان سكان المنطقة المحيطة بالنيل مستعدين للتعامل مع الدولة الحديثة بحكم تلقيهم قدرا من التعليم، وقربهم من المنطقة التي اختارها المستعمر لصنع القرار السياسي، ورغم ذلك، فلم يجر حرمان أي مجموعة أو فئة من المشاركة السياسية، فكل الأطراف نالت تمثيلها بواسطة هيئات وسيطة ملائمة في حينها كالطريقة الصوفية، والمشيخة القبلية، وثنائية "الأنصار" و"الختمية" في قمة الهرم تمثل الأطراف.

إذا كان العراق أسبق في العمل التنموي، والتفاوض لضمان حقوقه النفطية على يد وزير مالية يهودي هو ساسون حسقيل، فإن أزمة السودانيين كانت في التمثيل السياسي، ولكنهم سارعوا فالتفوا حول السيدين والشريف الهندي كزعامات تقليدية

والقضية ذاتها، يمكن قولها في حق العرب السنة في العراق، ومراسيم استخدام اللغتين الكردية والتركمانية في التعليم، والإدارة في مناطق الفئتين في بدايات الدولة العراقية شاهدة على ذلك، علاوة على عمل الأكراد وزراء، وقس على ذلك في الجانب العربي، ويمكن الاطلاع على أسماء الوزراء، والمناطق التي جاؤوا منها ومنذ أول حكومة في عهد الانتداب.

وإذا كان العراق أسبق في العمل التنموي، والتفاوض لضمان حقوقه النفطية على يد وزير مالية يهودي هو ساسون حسقيل، فإن أزمة السودانيين كانت في التمثيل السياسي، ولكنهم سارعوا فالتفوا حول السيدين والشريف الهندي كزعامات تقليدية، وانتدبوا مؤتمر الخريجين للتعبير عن النخب الحديثة، لكن الرؤية التنموية السودانية لم تكن واضحة، وإن كانت تميل غالبا للنهج الرأسمالي، والقبول بغير السودانيين تجارا وسودانيين أصلاء كذلك.

وإذا كان العراقيون محظوظين بالتفافهم حول العائلة الهاشمية، فقد فرطوا في ذلك بتركها تُقتل بدون رحمة عام 1958م، ولكن الثنائية السودانية كانت مزمنة، فأنت بين عبد الرحمن المهدي وعلي الميرغني، فاكتفى السودانيون بالالتفاف السياسي كالتفاف عمائمهم، بدلا من الرأس الواحد.

الجنوب في السودان والشمال في العراق صداع قديم، أدى إليه الاستعمار بسياسة المناطق المقفولة في السودان، وفي العراق أدى إليه الخطأ في إدارة التنوع خلال أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي والعهود اللاحقة، ألم يكن الأجدر بالعهد الملكي في العراق القبول بمحمود البرزنجي زعيما للأكراد يوحدهم، بدل تسليمهم للأيديولوجيات المختلفة، ألم يكن الأجدر بالخريجين في السودان خلال الأربعينيات القبول بفكرة الفدرالية مع الجنوب، بدلا من ترك الأمر عائما ومجرد وعد لم يتحقق؟

تعلمت شخصيا من فتنة العراق وفتن السودان المتتالية أن الصراعات الكبرى يشعلها آخرون، يدخنون السيجار، ويجعلون الفقراء، والمساكين يقتتلون

لقاء الأيديولوجيا بقلمها مع العسكرية بسيفها وتحالفهما معا، أدى في العراق لانقلابات دموية، واعتقالات، واحتقانات، وحروب في الداخل، والخارج، واستبداد جعل القرار حكرا على فرد، يحمل وزر أخطائه الملايين، ويُجبرون على تمجيده. وفي السودان، أدى لأن تكون فترات الحكم المدني أصلا لا تتجاوز 12 سنة من أصل 67 عاما هي أعوام دولة السودان المستقلة، وأدت للإضرار ببنية الجيش، واستقراره، وعلى قدرة النخب على بناء مشاريع مستدامة، وإستراتيجية تبني دولة حقيقية، وهو ما أفضى لأزمات اقتصادية خانقة، وتبديد لثروات البلد، في حين أودت بالاقتصاد العراقي لهوة الحصار، وبالجيش العراقي لنهاية مأساوية دفعت جنديا من جنوده عام 1991 لإطلاق النار على تمثال صدام في ساحة سعد بالبصرة.

ومع كل هذه الاعتلالات، كان من الطبيعي أن يتأثر المجتمعان، وعند ساحة الانفجار تشتعل النار، ولا تخمد كما تفعل نار "بابا كركر" منذ القدم، وهذا ما حدث، فلو كانت الدولة سليمة البنية، لما حن العراقي ولا السوداني لا لقبيلة، ولا لطائفة، ولا لشعار آخر يضمن له سلامته، وحقوقه الآدمية الطبيعية، ثم يكتشف في ما بعد أن كل تلك الجماعات يجري التلاعب بها على مستوى العالم، وأنها لا تخدمه.

لقد تعلمت شخصيا من فتنة العراق وفتن السودان المتتالية أن الصراعات الكبرى يشعلها آخرون، يدخنون السيجار، ويجعلون الفقراء، والمساكين يقتتلون، ويبذلون الغالي والرخيص، وهم يعتقدون أنهم سيجلبون الفردوس على الأرض، ويخلصون العالم من الأعداء، والأبالسة، والحالمون الطيبون يموتون في الزحام بين الضجيج ولا يلتفت إليهم أحد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.