شعار قسم مدونات

فلسفة التوازن

التوازن بين الحياة العملية والشخصية يساعد الرجل على مواجهة متلازمة الاحتراق النفسي، ومن ثم المشاكل الجنسية المترتبة عليها. (النشر مجاني لعملاء وكالة الأنباء الألمانية "dpa". لا يجوز استخدام الصورة إلا مع النص المذكور وبشرط الإشارة إلى مصدرها.) عدسة: dpa
يحقق الله التوازن داخل حياة الفرد فعندما يفرط المرء بسلوك ما يخلق الله فيه سلوكا آخر مضادا لتحقيق غاية التوازن (وكالة الأنباء الألمانية)

تعترك حياة الإنسان بالتضارب والتناقض، يصنع ذلك بوعيه وأحيانا بدونه، والمشكلة الأكبر من كل ذلك أنه لا يقف أمام نفسه يسألها: لماذا حياتنا غير متزنة؟ لا يتساءل! لا يدرك حقيقة أن كلمة "لماذا" أعظم ابتكار بشري، وهكذا غدت حياته مليئة بالأحداث التي لا يعرف ما هي ولماذا حدثت، من لا يتساءل لا يعرف ولن يعرف.

ويقول له القرآن {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} (البقرة: 143)، لكنه يقاتل بضراوة وبعقلية هشة لينزوي في طرف ما، ويقول له ربه الشيء ذاته بصيغة أخرى {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط} (الإسراء: 29)، وهو إما يغلها أو يبسطها كل البسط.

يشاهد الله الإنسان فيراه لم يقم بوظيفة الاستخلاف في الأرض التي أوكله بها كما ينبغي بل ذهب بعيدا عنها، حاد عن مهمته، وهناك حيث ذهب تشظى وتشرذم وتاه، ورغم ذلك لم يترك الرحمن جل في علاه هذا الإنسان وحده.

لو أننا نتأمل المواقف والتجارب التي نمر بها لفقهنا الحياة جيدا، ولتمكنا من السيطرة على الاختلالات التي تشوهها ولكنا أكثر وعيا وإدراكا

الإنسان الذي لم يأبه بتحقيق مبدأ "التوازن" على مستوى شخصه وأسرته ومجتمعه وأمته أو أنه عجز عن تحقيق ذلك المبدأ الذي يجعل الحياة سليمة تتسع للجميع في حب ووئام تتلطف يد الله وقدره في تحقيقه بأقدار ما، بطرق وأساليب مختلفة ومتنوعة تمر في حياتنا بصور كثيرة وباستمرار ولكننا لا نقف أمامها ولا نتعلم منها.

لو أننا نتأمل المواقف والتجارب التي نمر بها لفقهنا الحياة جيدا، ولتمكنا من السيطرة على الاختلالات التي تشوهها ولكنا أكثر وعيا وإدراكا، وبالتالي يمكن لها أن تسير بنا دون عناء في مركب الحضارة، ولكن لا نفعل، ولا نزال لا نفعل.

سبق أن قرأت شيئا عن قدرة الله في تحقيق التوازن على الأرض عندما تطغى قوة على أخرى، وذلك في كتيب صغير "أمة لن تموت" للدكتور راغب السرجاني.

وأخذت الشواهد والأحداث التي أشاهدها وأعيشها في حياتي تعزز هذه القناعة لدي أكثر وأكثر: حين يطغى الإنسان وتعجز قوى الخير فيه عن تحقيق العدل يتكفل الله بتحقيق ذلك.

يقول السرجاني "عندما سيطرت أميركا على العالم وراحت تطغى وتستبيح الشعوب الأخرى بعث الله لها الصين وروسيا كقوة أخرى مهددة لها، وأغرقها بمشاكل اجتماعية جمة معقدة، تنتهي أمة وتصعد أخرى ليحمي أمة أخرى، فقد يحقق الله التوازن شرا بشر أو خيرا بشر".

كأن الله أراد القول لذلك الأب: لم تكن وسطيا في عطائك، كانت يدك مغلولة إلى عنقك، لم تدرك الأمر وتعالجه بالحسنى ومضيت ويدك إلى عنقك فبعثت لك ابنك عبرة

هناك قصة حقيقية عشتها بنفسي، وهي التي دفعتني للكتابة عن هذا الموضوع "أب له يد مغلولة إلى عنقه"، له ولد أصبح جوادا في لحظة زمنية لم يحسبها، الذي لم يستوعبه الأب أن الولد اتخذ شكل التمرد في تحقيق كرمه، ينتصر الابن ويقف الأب بطريقة ليس لها تعريف عاجزا أمامه.

يعرف الأب هذه الحالة أثناء غضبه وثورانه بحدود شكلها ولحظتها بـ"أنها عقاب من الله له"، وهي حقا كذلك لكنه لم ولن يعرف أنها كذلك.

كنت أقرأ حالة الصبي المتغيرة بهذا السياق: سلوك ناتج عن تغيير الصبي بيئته الاجتماعية، أي أصبح -أو ربما- رفيقا لأصدقاء السوء، ولكن عندما شاهدت إحدى لحظات الصراع بين الولد وأبيه بكل تفاصيلها أدركت أن الله بعثه ليحقق التوازن داخل البيت الواحد.

كأن الله أراد القول لذلك الأب: لم تكن وسطيا في عطائك، كانت يدك مغلولة إلى عنقك، لم تدرك الأمر وتعالجه بالحسنى، ومضيت ويدك إلى عنقك، فبعثت لك ابنك عبرة، فكان باسطا يده كل البسط، وعلى نقضيك، (وهنا مثال قوي وعميق، الدرس من أقرب الناس له حتى يتم استيعابه، أما كونه نقيضا آتاه الكرم من أوسع أبوابه فحتى يدرك أن لا عيش سليما بين نقيضين فيندفعان معا نحو نقطة الاستقرار السكينة/ التوازن/ الوسط)، ولتعلم أن الحياة خلقت على أساس التناقض، وأن لا استقرار فيها إلا إن كان بالتوازن.

ويحقق الله التوازن داخل حياة الفرد، فعندما يفرط المرء بسلوك ما يخلق الله فيه سلوكا آخر مضادا لتحقيق غاية التوازن، جعل الله في حياة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- شدة عمر ولطف عثمان، والشواهد كثيرة لا يستع المقام هنا لسردها.

لله غاية وحكمة في اختيار النوع الذي يحقق به التوازن في حياة ما، فإذا لم ندرك أهمية تحقيق هذا المبدأ في حياتنا فقد يحققه الله بالشكل الذي يصبح عقابا ووبالا علينا كما حدث مع الصبي وأبيه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.