اهتم نابليون بونابرت في حملته على مصر عام 1798 بإحضار مطبعة تضم الحروف العربية والفرنسية. ويوضح أحمد حسين الصاوي في كتابه "فجر الصحافة في مصر" مدى اهتمام نابليون بالمطبعة، وأنه كان يشرف بنفسه على تزويد الحملة بجهاز طباعي كبير، وعلى توفير والمعدات والحروف. فلماذا الطباعون؟
إن التاريخ يحتاج إلى تحليل وتفسير لكي نتمكن من تحويله إلى أساس لمعرفة شاملة تسهم في بناء المستقبل. فأي أهمية كانت للمطبعة في تحقيق هدف نابليون في أن تكون مصر هي مركز الإمبراطورية الفرنسية الاستعمارية في الشرق؟
الحروف والقنابل
توضح دراسة التاريخ أن المطبعة سلاح لا تقل أهميته عن المدافع والجنود الذين بلغ عددهم 50 ألف جندي، وعن الأسطول الذي بلغ 400 سفينة، بل ربما كانت المطبعة في نظر نابليون أهم من ذلك كله.
وكان اختيار نابليون للمستشرق مارسيل للإشراف على مطابع الحملة دليلا على إدراك العقلية الاستعمارية للمطبعة كوسيلة للسيطرة على الشعوب، فنابليون كان يريد أن يسيطر على العقول والقلوب بالمنشورات قبل أن يسيطر على الأرض باستخدام الجنود والمدافع.
أصرّ نابليون أن يحمل المطابع في سفينة القيادة التي أبحر بها بنفسه، واستخدمها ليطبع عليها أول منشور موجه إلى شعب مصر قبل أن يصل إلى الإسكندرية، وكان ذلك المنشور أكثر تأثيرا في شعب مصر من القنابل التي قذفتها المدافع لتثير الرعب والخوف في النفوس.
ليس مجرد قائد عسكري
كان مارسيل عالما ومستشرقا يجيد اللغة العربية، وله خبرة كبيرة بالصحافة والطباعة، لذلك كان اختياره له يوضح أن نابليون لم يكن مجرد قائد عسكري يهتم بالقوة الصلبة فقط، لكنه درس الإمكانات والفرص التي يوفرها عصره، فأدرك أن المطبعة مصدر قوة استخدمه الفرنسيون في ثورتهم، ويمكن أن يستخدمها في بناء واقع جديد، ويفرض بها على الشعوب في البلاد التي يحتلها أن تخضع له فكريا وثقافيا.
لذلك أصرّ نابليون أن يحمل المطابع في سفينة القيادة التي أبحر بها بنفسه، واستخدمها ليطبع عليها أول منشور موجه إلى شعب مصر قبل أن يصل إلى الإسكندرية، وكان ذلك المنشور أكثر تأثيرا في شعب مصر من القنابل التي قذفتها المدافع لتثير الرعب والخوف في النفوس.
هذا يوضح أن نابليون كان يخطط لغزو عسكري يستخدم فيه قوته الغاشمة لاحتلال الأرض، ولغزو فكري وثقافي يستخدم فيه الدعاية للسيطرة على العقول وإلحاق الهزيمة النفسية بالشعب المصري.
ولأنه كان يخطط لاحتلال مصر والشام، استخدم المطبعة لإنشاء صحف فرنسية تربط جنوده بفرنسا، وتحفزهم للقتال والبقاء مدة طويلة، وإقناعهم بأنهم يقومون بمهمة وطنية.
قوة الصحافة
ينقل أحمد حسين الصاوي عن فيل مؤرخ الصحافة الفرنسية أن نابليون كان يؤمن بقوة الصحافة، وكان هذا الإيمان يشغله دائما، وأن نابليون أحب الصحافة بشرط أن تكون رسمية.
وكان نابليون يريد استخدام المطبعة والصحافة للدعاية، فهو لم يكن -كما يقول الصاوي- من أنصار حرية الكلمة؛ بدليل أنه قام بإلغاء كثير من الصحف الفرنسية بعد أن أصبح إمبراطورا، وفرض الرقابة على الدول التي لم يقم بإلغائها فيها.
هذا يوضح أن نابليون كان يريد استخدام المطبعة والصحافة كما تستخدمها النظم الدكتاتورية في الدعاية، وهذا يفسر سلوكه نحو الصحافة الفرنسية، إذ كان يراقب هذه الصحف بنفسه.
ولم يكن نابليون يريد بإحضار المطبعة خيرا لمصر، لكنه كان يريد استخدامها في الدعاية، ولتكون سلاحه للسيطرة الفكرية والثقافية.
واجه كثير من شيوخ الأزهر دعاية نابليون وأتباعه باستخدام الاتصال المباشر بالناس لتعبئتهم للثورة ضد الحملة الفرنسية، وتمكن هؤلاء الشيوخ من قيادة ثورة القاهرة الأولى فدفع ذلك نابليون إلى استخدام قوته الغاشمة، فضرب منطقة الأزهر بالمدافع.
المنشورات والخداع الإستراتيجي
استخدم نابليون المنشورات باللغة العربية، ووزع كثيرا منها على النخبة والجمهور، وفي منشوره الأول الذي وزعه في الإسكندرية ادّعى أنه وجنوده مسلمون، وبدأ المنشور بالبسملة والشهادة.
بعد ذلك طور نابليون أساليبه في استخدام المطبعة لإصدار منشورات بهدف الخداع الإستراتيجي للمصريين، فاستخدم مجموعة من علماء الأزهر، وأصدر باسمهم منشورا يؤكدون فيه أن نابليون يحترم "الملة المحمدية"، وأنه يقرأ القرآن.
ومن الواضح أن شعب مصر استجاب في البداية لهذه الدعاية، فقد ركزت المنشورات على أن نابليون هو المهدي، ومبعوث العناية الإلهية، والبطل الملهم الذي قدر في الأزل أنه سوف يحكم مصر ليخلصها من ظلم المماليك، ويصد عنها عدوان الكفرة، وأنه سيكون حامي حمى الإسلام ومحطم أعدائه.
لكن كثيرا من شيوخ الأزهر واجهوا دعاية نابليون وأتباعه باستخدام الاتصال المباشر بالناس لتعبئتهم للثورة ضد الحملة الفرنسية، وتمكن هؤلاء الشيوخ من قيادة ثورة القاهرة الأولى؛ فدفع ذلك نابليون إلى استخدام قوته الغاشمة، فضرب منطقة الأزهر بالمدافع، وأباد آلافا من الجماهير التي تظاهرت ضد الفرنسيين.
هذا يوضح أنه على الرغم من أهمية المنشورات المطبوعة، فإن الاتصال المباشر أكثر كفاءة وتأثيرا، وأن هناك حدودا للخداع الإستراتيجي والدعاية.
وصف الثورة بأنها تخريب!
بعد أن نجح نابليون في القضاء على ثورة القاهرة الأولى باستخدام قوته الغاشمة أصدر منشورا وزعه في القاهرة وصف فيه نفسه بالعدل والرحمة، وادّعى أن الثورة عملية تخريب، وقال في هذا المنشور -كما نقله أستاذي أحمد حسين الصاوي- "اعلموا أيضا أن الله قدّر في الأزل هلاك أعداء الإسلام على يدي، وقدر في الأزل أن أجيئ إلى أرض مصر لهلاك الذين ظلموا فيها، ولا يشك عاقل أن هذا كله بتقدير الله وإرادته".
هذا يوضح أنه نجح في جذب مجموعة من مشايخ الأزهر إلى جانبه، وأن المستشرقين أشاروا عليه بأن هذا الخطاب هو الطريق الوحيد للسيطرة على قلوب المصريين. لكن دخول خيول الفرنسيين إلى الأزهر كشف لشعب مصر زيف الدعاية التي تضمنتها منشورات نابليون.
يقول أحمد حسين الصاوي: "إن هذه المعاني تكررت في كثير من المنشورات التي وزّعت في مصر؛ ففي منشور أصدره نابليون بعد ثورة القاهرة الأولى قال: إن الذي يعاديني ويخاصمني لا ينجو بين يدي الله لمعارضته لمقادير الله، وعليه اللعنة والنقمة من الله".
أدرك نابليون أن تأثير الشيوخ الذين أيّدوه محدود، وأن الشعب كان ينظر إلى هؤلاء الشيوخ باحتقار وازدراء، بينما شارك معظم العلماء في ثورة القاهرة الأولى، وتمكنوا من التأثير في الشعب وتعبئته للثورة باستخدام الاتصال المباشر.
لكنه هرب في النهاية!
هذا الخطاب الذي استخدمه نابليون في الخداع الإستراتيجي يتعارض مع شعار العلمانية الذي رفعته فرنسا بعد ثورتها، لكن موقف علماء الأزهر بقيادة عمر مكرم أوضح لنابليون أن حلمه في احتلال مصر وبناء الإمبراطورية الفرنسية في الشرق لن يتحقق، وأنه إذا كان قد نجح في القضاء على ثورة القاهرة الأولى فإن ثورة قادمة أشد وأقوى، لذلك كان خروج نابليون من مصر هروبا، وكان قرارا يعبر عن ذكاء؛ فقد كان الخيار الوحيد الذي يشكل إنقاذا لسمعته.
أدرك نابليون أن تأثير الشيوخ الذين أيدوه محدود، وأن الشعب كان ينظر إلى هؤلاء الشيوخ باحتقار وازدراء، بينما شارك معظم العلماء في ثورة القاهرة الأولى، وتمكنوا من التأثير في الشعب وتعبئته للثورة باستخدام الاتصال المباشر.
تقدم الوسيلة لا يكفي وحده
يوضح ذلك أن تقدم وسائل الإعلام لا يكفي وحده، فالمنشورات المطبوعة وسيلة متقدمة في ذلك العصر، وتشكل أهم أسلحة الحملة، لكن الاتصال المباشر الذي استخدمه علماء الأزهر كان أكثر تأثيرا.
كما يوضح أن الشيوخ الذين خضعوا لإغراءات نابليون وتهديده فقدوا احترام الجمهور، على الرغم من أن خطابهم تحمله الوسائل الحديثة.
وكانت ثورة القاهرة الأولى وثورة القاهرة الثانية فخرا لشعب مصر ولشيوخ الأزهر الذين قادوا الثورتين.
يقول أحمد حسين الصاوي: "إن نابليون أثار سخرية المصريين والفرنسيين بأكاذيبه التي بسطها في منشوراته.. وكان شيوخ الأزهر أكثر ذكاء فلم تخدعهم دعاية نابليون الزائفة، وانطلقوا يقومون بوظيفتهم في توعية الجماهير وقيادتها، وتجلّت حكمة قيادة عمر مكرم والعلماء الحقيقيين، فحققوا الانتصار على نابليون، وتمكنوا من هزيمة مدافعه ومطبعته ومنشوراته".