شعار قسم مدونات

قراءة في المشهد الانتخابي اللبناني

مدونات - انتخابات لبنان
انتخابات لبنان (رويترز)

15 مايو/أيار 2022، تاريخ غير عادي في المشهد السياسي اللبناني، حصلت الانتخابات النيابية وسط عاصفة من الأزمات العميقة على كافة المستويات الاقتصادية والسياسية والنقدية، فلقد جاءت نتائج تلك الانتخابات عكس ما تشتهيها السفن، حيث أصاب الزلزال الكبير الحلفَ الممانع الذي يتكون من حزب الله وحركة أمل والتيار الوطني وباقي الحلفاء والذين يحسبون على النظام السوري خصوصا وعلى السلطة السياسية التقليدية عموما، فلقد كانت نتيجة تلك الانتخابات صفعة في وجه ذلك الحلف؛ حيث أدى إلى اندثار معظم حلفاء النظام السوري تقريبا من المجلس النيابي، ولكن المشهد الأخطر هو وصول نيران التغيير والحالة الاعتراضية إلى حدود البيئة الشيعية الحصينة والمنيعة لأي نوع من التغيير الثقافي أو السياسي نتيجة النظام "الدو غمائي" المتبع في بيئته المغلقة وضمن مجتمع مؤدلج يصعب عليه تقبل التغيير وتقبل أي مصدر أخر من المعرفة السياسية والفكرية.

ماذا حصل وكيف حصل ذلك؟ قبل الخوص في التفاصيل، علينا إدراك مسألة مهمة وهي أنه في لبنان ليس هناك نظام سياسي بمفهوم العلوم السياسية والتنظيمية؛ إنما هناك منظومة معقدة ومتماسكة تختبئ خلف خطابات طائفية وهي السلطة السياسية التي تتحكم بالدولة والتي حوّلتها إلى مزرعة خاصة، وهي تشبه الفلسفة "النيو ليبرالية" نوعا ما، تلك المنظومة تتشكل من أحزاب تتشارك في التحاصص وفي مراكز الدولة والصفقات، حتى وصل الدين العام إلى 100 مليار دولار تقريبا، رغم كل المناكفات السياسية والصراعات فيما بينها والاغتيالات السياسية التي حصلت طيلة فترة زمنية معينة، إلا أنهم في الأوقات المصيرية يتناسون الخلافات والاختلافات ويتحالفون في وجه الخصوم، وهذا تماما الذي حصل في 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019 عندما اندلعت الثورة والتي كانت بداية انهيار الكهنوت السياسي لجميع الأحزاب السياسية التقليدية والطائفية، ولكن رغم حجم الصدمات؛ فإنهم صمدوا في وجه المتغيرات السريعة، ولكن المشهد بعد الانتخابات تغير لعدة أسباب:

انهيار الحلقة الأولى

هذه المنظومة تشبه العقد الذي يتكوّن من حلقات متشابكة مع بعضها البعض، بسقوط واحدة يبدأ العقد بالتساقط كله، وهذا ما حصل تماما، جاءت ثورة 17 أكتوبر/تشرين الأول والتي كانت بداية النهاية بالنسبة لتيار المستقبل وهو الذي تعرض إلى نكسات سياسية متعددة بدأت بالتسوية الرئاسية مرورا بالموافقة على قانون انتخابي سيئ وصولا إلى الثورة، مع هذه الطلقات المتعددة بالإضافة إلى أسباب أخرى، انسحب تيار المستقبل وانكفأ عن المشهد السياسي وأعلن اعتكافه، هذا الانسحاب المبدئي أدى إلى ضبابية في المشهد العام وإلى تخبط ضمن السلطة السياسية أو المنظومة، وبذلك فُتحت ثغرة السُنة والتي لم تعد مسيطر عليها من الأحادية السياسية والتي تلتزم بقرارات واتفاقيات بين أقطاب السلطة. هذه الحلقة أدت إلى هزة سياسية بين أركان الدولة العميقة وبدأ الخلل يدخل إلى تلك المنظومة.

التهالك البنيوي ضمن الأحزاب نفسها

لا شك أن الصدمات المتعددة أضعفت تلك الأحزاب إضافة إلى الأزمة الاقتصادية التي جعلت الناس تعيد حساباتها تجاه خياراتها وانتمائها السياسي، إلا أن العامل الأساسي هو التآكل البنيوي لمعظم الأحزاب وعدم المراجعة السياسية والقراءة نقدية في مسارها وتجاربها أقله في العقد الأخير، فالثابت الوحيد في النظام الكوني هو المتغير، بمعنى أن كل شيء يتغير ويتبدل والذي يتطلب مواكبة السياق التاريخي والاجتماعي الذي يتغير ويتبدل، كما أننا نعيش في عصر ولّت فيه الأيديولوجيات، كما يقول فوكوياما، وأصبحنا في زمن يسيطر عليه الصراع الثقافي، فأصبحت تلك الأحزاب متأخرة عن المشهد الحداثي والنموذجي للأحزاب السياسية الحديثة والنموذجية، فالمجتمع ورؤيته للمستقبل غير متسق مع الأحزاب مما شكل فجوة عميقة بين الجمهور والقيادة السياسية.

الخطاب السياسي

ولا شك أن الإنسان كما يقول هيغل أسير أفكاره وبيئته لفترة زمنية، ولكن بعد ثورة 17 أكتوبر/تشرين الأول تغير نوعا ما الواقع الاجتماعي وكُسر الخطاب الطائفي بشكل لابأس به، وتم عرض خطاب سياسي خارج عن التقليد والمعهود، هذا الخطاب الجديد في السوق السياسي أدى إلى التوغل في أذهان الناس التي سئمت من الخطابات الخشبية والأيديولوجية المقيتة، وإن الخطاب الجديد العابر للمناطق والطوائف جعل الأحزاب التقليدية عاجزة على مواجهتها والالتحاق بركاب التغيير والتحديث فوجدت نفسها غير قابلة لكسر الفلسفة "الدو غمائية" وغارقة في أيديولوجيات غير قابلة للتسويق.

الانقسام في المشهد السياسي

في الآونة الأخيرة، أصبح المشهد السياسي والاجتماعي في لبنان أقرب إلى أن يكون فدرالية مقنعة، والفدرالية الأولى تتضمن المحور الممانع أي الإيراني، والثانية المحور السيادي، ومن هنا كانت التعبئة والخطاب السياسي تجاه محور الممانعة سهل التسويق بسبب الارهاصات والممارسات التي قام بها حزب الله في الداخل والخارج، فتجمعت القوى الثورية بكافة أطيافها والقوى التقليدية السيادية على رأسهم القوات اللبنانية في رص الصفوف وتنظيم خطابهم والتركيز على عروبة لبنان وعودته إلى أحضان المشرق العربي مجددا، وهذا ساهم في ضرب الغطاء المسيحي لحزب الله وتعاطف الشارع السني والمسيحي مع قوى التغيير والقوى التقليدية التي تحمل شعار السيادية.

واليوم هناك فرصة حقيقية لاستكمال إضعاف تلك المنظومة والتي أثبتت رغم كل تعقيداتها وأيديولوجيتها أنها تنين من ورق، وطبعا مواجهتها تحتاج إلى خطاب وسطي قادر على خرق البيئات المؤدلجة والمنغلقة والمتقوقعة في "دو غمائية" المعرفة وغيرها من انغلاق فكري وتكفير سياسي كأسلوب متبع لمواجهة الخصوم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.