شعار قسم مدونات

ضَيّق عليها الباب!

تقديم القهوة العربية عادة أساسية في المجالس القطرية (الجزيرة)
مواضيع كثيرة تُغنينا بوفرتها عن الخوض مع الخائضين في الغيبة في مجالسنا (الجزيرة)

تزداد إضاءة المجالس، وتزدهر اللحظات، وتدخل السعادة من النوافذ والشُرفات، وتُفتح الشهية للطعام (والشَربَات)، وتُجلجل في الغُرف الضحكات حينما يتعلَّق الحديث بذم غائب غافل، والتندُر عليه، والانتقاص منه، وتفكيك مثالبه، وإبراز عيوبه، وفضح أخطائه، وقول ما فيه وما ليس فيه!! إلى آخر ملامح الغيبة التي لا نكاد أن نسلم منها جميعا للأسف!

نعم.. لقد ضاقت الجدران بأحاديثنا عن فلان وفلان، وكادت الأسقف أن تخر علينا، واستغفرت الغرف الحزينة من زخم شياطين غيبتنا التي تتجدد فيها نوايانا الخاطئة بشكل دائم، ويتجلى فيها خوفنا من المواجهة! فنستغل غيابه لنستمتع بدائرة الوهم، ونستأنس بالقدح فيه، والكذب عليه، والتقليل منه، ووصمه بأبشع الأوصاف، وقول جميع المواضيع التي تُسيئه! وحينها إذا لم يكن بيننا شخص رشيد سنظل نخوض مع الخائضين الذين نهانا الله عن الجلوس معهم حتى يخوضوا في حديث غيره.

والغريب أننا اعتدنا الوقوع في مخاطر الغيبة التي نهى الله سبحانه وتعالى عنها في سورة الحجرات التي تُعتبر من أهم دساتيرنا المقدسة في فقه المعاملات، وخارطة قوانينا الثابتة في حُسن التعامل مع الآخرين، فقال جل وعلا (وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا)، ثم بيّن لنا سبحانه وتعالى خطورة الغيبة بهذا الوصف المُرعب (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ)، ثم لكي يُحفزنا سبحانه وتعالى للعودة والتوبة والإنابة ختم الآية ذاتها بقوله (إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) (الآية: 12)

ولأن الخيارات دائما تكمُن في أيدينا في بدء الحديث أو إنهائه، يمكننا إذن أن نُضيّق عليها الباب بأمور عديدة تجعلنا نُخفف منها طالما أن إرادتنا لم تصل لمرحلة التخلص نهائيا منها!

وفي طريقنا نحو تضييق الباب تمهيدا لإقفاله، يمكننا التوقف مثلاً عن طرح سؤال عن شخص ما لشخص نعرف مُسبقا أنه يكرهه، أو بينهم مشاكل مُعينة! فحينها هل نتوقع مثلاً أنه سيذكره بالخير؟

وإذا عرفنا أن كؤوس الحديث ستنضح بما سنملؤها به، وبأن الغيبة تنشأ من الفراغ الصوتي، ومن غياب المواضيع المشتركة، سنعرف أن لدينا الكثير من المواضيع التي تخصنا قبل الآخرين، وتعنينا أكثر منهم، مثل الحوارات عن المواضيع الخاصة التي تمس حياتنا، والروابط الوطنية والعرقية والجهوية والعائلية التي تربطنا وتُشكل مصيرنا، والمحاور الثقافية الكثيرة التي تجمعنا، والمشتركات الكونية التي تربطنا، بل وحتى نقاط الخلاف وتحولات الاختلاف التي تميّزنا، وتدل على تنوعنا وتعايشنا وثرائنا.

ولا تقف محاور المواضيع التي يمكننا النقاش فيها -بعيدا عن فتح الباب للغيبة وأختها الفاشلة النميمة!- عند هذا الحد، فلدينا الطرائف والنوادر، والشعر والنثر، والقصص، والأدب بجميع فروعه، والأخبار اليومية، ومستجدات الأحداث، والنجاحات والخيبات، ونقاط التحوَّل، وغرائب العالم، ونوادر الكون، والبوح عن الهموم، والتنفيس عن الغموم، والإفصاح عن الأسرار، والكشف عن الطموحات، وطلب الآراء والاقتراحات، وتداول الأفكار والمُستجدات، بل وحتى الحديث في الفراغ والتيه والحيرة والخيال! فكل هذه المحاور والمواضيع تُغنينا بوفرتها عن الخوض مع الخائضين في الغيبة، وتقف حاجزا صلبا أمام طوفانها الذي يعترينا!

وإذا ركزنا الحديث على المواضيع آنفا وغيرها -فالكون يضج بالحديث المباح، ويفيض بالخيارات الحوارية النيقة المتاحة في كل مكان وزمان- سنشعر بمتعة لا تُضاهى، وبجمال روحاني لا مثيل له، وسنتخفف من قيود الغيبة وقلقها، وسنتجاوز تبعاتها فكما نُدين نُدان، وكلما اغتبنا، سهر الناس في متعة خاطئة على سيرتنا، واستأنسوا بوهم على القدح في أعراضنا، والتقليل منا، وقول كل شيء سلبي فينا!

ولو عرفنا أن غالب الناس حتى ولو ضحكوا منا أثناء انهماكنا في الغيبة، فإنهم داخليا يحتقروننا، ويعتبروننا جُبناء لا نستطيع المواجهة، وضِعاف لا نقوى على التصريح في وجوه من نغتابهم، بل يخافون منا حينما آمنوا بأننا بلا عهد ولا ذمة، وعرفوا بأننا نبيع لأول مشترٍ، وتأكدوا بخيانتنا للعشرة التي بمُجرد أن يتولى الإنسان عنا نقع فيه بما فيه وما ليس فيه!!

وحينها لو سلطنا شمس الوعي على جليد غفلتنا، واستيقظنا من ضياعنا وحيرتنا، واستوعبنا خطورة الغيبة على حياتنا، وفهمنا أنها كبيرة تضر بنا، وخطيئة تصعب التوبة منها والإقلاع عن إدمانها، فسنعرف حينها خيبة خوضنا فيها، وعظمة ذنبها عند الله، وحينها سيتغير لدينا الكثير تجاه أحاديثنا الواعية وغير الواعية، وستغشى المتعة الحقيقية مجالسنا، وسنضحك بصدق نُؤجر عليه حينما نُطيِّب مجالسنا بما يُرضي الله، وينعش ضمائرنا بهجةً وحياة.

حكمة المقال

قبل أن تفكر وترتاب وتتساهل وتغتاب! بإمكانك أن تُضيّق عليها الباب ريثما تُغلقه للأبد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.