شعار قسم مدونات

فرنسا والسنغال.. عندما التقى الصياد والفريسة

لقد تمكن هؤلاء الفرسان الجدد القادمون من قلب القارة الأفريقية من تحقيق المعجزة وسجلوا أسماءهم في ذاكرة التاريخ (الجزيرة)

في يوم 31 مايو/أيار 2002، على ملعب سول في كوريا الجنوبية، التي كانت مع جارتها اليابان تستضيفان كأس العالم لكرة القدم، التقى الصياد بالفريسة، كان الصياد يحمل الكأس، والفريسة تحمل الخوف، كانا متساويين بتاريخ مشترك يبلغ 300 عام من الاستعمار، لكن الكفة كانت تميل لصالح الأقوى في التاريخ السياسي والاستعماري والكروي أيضا.

السنغال المستعمرة الشهيرة ببيع البشر كانت ملكية فرنسية طوال 300 عام، ولكن في عام 2002، في بطولة كأس العالم في كوريا واليابان، كانت السنغال تحتفل بعيد استقلالها الحقيقي، حينما هزمت فرنسا بطلة العالم لتتحرر من عبوديتها الأزلية.

صيد البشر وبيعهم

تعوّد الأفارقة لمئات السنين على الركض خائفين من الاصطياد، كانوا يركضون كما تعلموا من آبائهم، هناك في قراهم ومدنهم وبين أقاربهم وأصدقائهم، ولكن عبثًا، لقد أعدّ الصيادون العدة وتجردوا من بقايا أي ضمير ونزعوا عن أنفسهم كل وازع، وعبروا البحر ليصادوا البشر ويبيعونهم في سوق "العبيد" إلى العالم الجديد.

في السنغال كان يتم تجميع الآلاف وعشرات الآلاف ومئات الآلاف والملايين من الأفارقة، على مدى 3 قرون من الزمان، ليتم شحنهم كقطعان إلى العالم الجديد.

في السنغال، صار لتجارة "العبيد" قواعدها وقوانينها، ولربما أخلاقياتها وواجباتها. في السنغال تم تفريغ القارة الأفريقية من الملايين من سكانها ونقلهم إلى قارة أخرى، بالطبع بعد قتل سكانها القدامى، وجلب آخرين جددا، كي يحلوا محلهم.

في منتصف القرن الـ15، هبط البرتغاليون على ساحل السنغال، ثم تنافست مختلف القوى الأوروبية -البرتغال وهولندا وبريطانيا العظمى- للتجارة في المنطقة من القرن الـ15 فصاعدا. وفي عام 1677، سيطرت فرنسا على ما أصبح نقطة انطلاق في تجارة البشر.

الصياد والفريسة.. وجها لوجه

كان الصياد يحمل وهو ينزل الملعب كأسين من أقوى الكؤوس في العالم في تلك الفترة، كأس العالم 1998، وكأس الأمم الأوربية 2000، ينما هذا الأسد الآتي من أدغال غرب أفريقيا، كان قد خرج في الفترة الزمنية نفسها من الدور ربع النهائي في بطولة الأمم الأفريقية، وخسر النهائي في بطولة الأمم الأفريقية 2002 أمام الكاميرون بضربات الجزاء الترجيحية.

لقد كان المنتخب السنغالي خالي الوفاض من البطولات والميداليات، فهو المنتخب الأفريقي الوحيد الذي كان يشارك في كأس العالم حينها.

لم يكن قد حصل ولو لمرة واحدة على كأس القارة السمراء طوال تاريخ مشاركاته، وكذلك لم يحصل أي نادي سنغالي على أي بطولة في أفريقيا، والأصعب أنها المرة الأولى التي تشارك فيها السنغال في كأس العالم.

الفريسة التي كانت تركض في الملعب لكي تهرب من الصياد تغير حالها، أدركت في لحظة الخوف بأن لديها أنيابا وأظافر، فقررت أن تلعب دور الصياد.

هدف الاستقلال

في الدقيقة 29 من زمن المباراة بين فرنسا والسنغال، استطاع بابا ديوب أن ينتزع الكرة من لاعب الوسط الفرنسي، ويمررها للحجي ضيوف على الجانب الأيسر من وسط ملعب فرنسا، لينطلق بها الحجي ضيوف على حواف منطقة الجزاء من الناحية اليسرى، مراوغا فرانك ليبوبوف، تاركا إياه على الأرض، وبتمريرة ساحرة بقدمه اليمنى، يسدد الحجي ضيوف الكرة زاحفة، بين الثلاثي الفرنسي، مارسيل ديسلييه وإيمانويل بوتي وحارس المرمى فابيان بارتيز، ليأتي ديوب، الذي كان قد أتى منطلقًا من وسط الملعب متابعًا بعينيه الحجي ضيوف، وكأنه مدرك، ومتأكد من أنه سيعيد إليه الكرة مرة أخرى.

ومن بين الثلاثي الفرنسي، يطير بابا ديوب منزلقًا ليضع الكرة المارقة في شباك فرنسا، وإلى حيث ركض ديوب، ناحية الراية اليمنى للملعب، تحلّق حوله 6 لاعبين من فريقه، ورقصوا كما تعود آباؤهم أن يرقصوا حين يصطادون فريسة.

في تلك اللحظة فقط، استطاع الأفارقة أن يستعيدوا ذاكرتهم، تلك التي انتُزِعَت منهم على مدى قرون. أدركوا أنهم الصيادون وليسوا الفريسة. وهناك في أبعد مكان عن غرب أفريقيا، في الناحية الأخرى من العالم، في كوريا، عادت للصياد مهارته، وأعلن بالرقص، أنه لم يولد فريسة، بل ولد -كما ولد أجداده- صيادًا.

لقد تمكّن هؤلاء الفرسان الجدد القادمون من قلب القارة الأفريقية من تحقيق المعجزة وسجلوا أسماءهم في ذاكرة التاريخ، ومنحوا المجد للمنسيين، هؤلاء الذين لا يتذكرهم أحد، وأعادوا إلى السنغال الحياة ووهبوا أفريقيا الصدارة، معلنين أن الأحلام قابلة للتحقيق.

لم يكن لاعبوا السنغال مجرد لاعبين جاؤوا من مستعمرة فرنسية سابقة، بل كانوا أولئك الأفارقة البسطاء الذين نجوا من تجارة البشر التي أدارتها فرنسا طوال 300 عام، عبروا البحر كي يثبتوا لأولئك الساكنين في الجهة الأخرى من الإنسانية، أنهم يستطيعون بأقدامهم أن يخلقوا حزنًا وأسى لهم بوسع البحر الذي يفصل بينهم، وأن يحرزوا مجدًا عز نظيره ويعلنوا إلى الأبد استقلالهم الأخير عن فرنسا.

 

  • ملحوظة: اعتمد المقال بشكل أساسي على كتاب "إحدى عشرة قدمًا سوداء" كذلك المعلومات الواردة فيه بشأن "تجارة العبيد" من نفس الكتاب للكاتب المصري محمود العدوي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.