شعار قسم مدونات

صراع الأخلاق.. عصر التنوير والانقلاب على الدين

Francois Marie Voltaire - (مواقع التواصل)
فولتير الشاعر والكاتب المسرحي والفيلسوف الفرنسي (مواقع التواصل)

الكلمات التي قالها رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) جياني إنفانتينو -في مؤتمره الصحفي الذي عقده في الدوحة في 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، قبل يوم من انطلاق مونديال كأس العالم لكرة القدم؛ تعد الشهادة الأولى من نوعها في حق التاريخ الأوروبي، حين قال "ما قمنا به كأوروبيين على مدار 3 آلاف سنة السابقة يتعين علينا الاعتذار عنه على مدار 3 آلاف سنة المقبلة قبل أن نعطي دروسا أخلاقية للآخرين". ورغم أن هذه الكلمات لم تصدر عن مفكر أو مؤرخ أو فيلسوف، فإنها تعد الأقرب تعليقا لحركة التاريخ الأوروبي المليء بالحروب والصراعات والانتهاكات والمذابح والاستبداد والهرطقات السياسية والدينية والفلسفية منذ فجر التاريخ الأوروبي وحتى ما بعد الحرب العالمية الثانية بقليل، بصورة لم تحدث داخل أي أمة من الأمم الأخرى على هذا النحو. نقول ذلك في سياق حديثنا في هذه السلسلة عن مسيرة الأخلاق عبر العصور الأوروبية المتعاقبة.

كان فولتير حريصا على ألا يصنف ملحدا أو معاديا للدين والكنيسة، وكان يردد أنه لا يحارب الدين والإيمان، وإنما يحارب الخرافات والتطرف وسلطة الكنيسة القمعية

هذا التاريخ الأسود لم يقتصر على داخل أوروبا، بل انتقل إلى خارجها أيضا على أيدي الحملات الأوروبية الاستعمارية المتعاقبة والمتحاربة، إلى جميع البلدان التي استعمرتها في أقطار الأرض الأربعة على مدى القرنين 18 و19، وحتى ما بعد النصف الثاني من القرن العشرين.

لا تزال العقلية الأوروبية تتغذى على هذا التاريخ بصورة أو بأخرى حتى الآن، فما يقوم به الغرب حاليا من تغيير للعالم تحت غطاء ما يعرف بأهداف التنمية المستدامة ليس سوى استعمار اقتصادي تكنولوجي جديد، مدجج بترسانة عسكرية تدميرية هائلة، تحت شعارات رنانة، وعبارات براقة، وأفكار مضللة ومخادعة، تقود العالم إلى هاوية الانهيار، بعد أن وصل بها الحد إلى تدمير النظام الأخلاقي، وتوجيه البشرية إلى تدمير فطرة الإنسان، وتغيير البناء الأسري والاجتماعي.

وما ذلك إلى امتداد للتحولات الفكرية والسياسية والعلمية التي شهدتها القرون السابقة انقلابا على استبداد السلطات السياسية والدينية والإقطاعية التي كانت تهيمن على حركة الدولة والمجتمع، على نحو ما عرضنا له في هذه السلسلة من المقالات.

رواد الدعوة إلى الإلحاد

تناولنا في المقال السابق عددا من رواد التيار العقلاني الذي ساد في الجزء الأول من عصر التنوير حتى النصف الأول من القرن 18، الذي غلب عليه المطالبة بالإصلاح الديني وإعلاء مكانة العقل، إلا أن هذه المطالبة بدأت تنحو منحى مختلفا في النصف الثاني من القرن 18، إذ احتدمت المعركة بين أنصار المنهج العقلاني والمتدينين المتعصبين المعارضين للإصلاح الديني، إثر كتابات عدد من الفلاسفة الذين طالبوا بسيادة العقل وفصل الدين عن الدولة.

وبينما ركز الفلاسفة الإنجليز والألمان في هذه الحقبة على إصلاح الدين وتنظيفه من الشوائب؛ اتخذ الفلاسفة الفرنسيون اتجاها تدميريا إلحاديا معاديا للدين، أسس لمفاهيم فلسفية جديدة في الأخلاق انقلبت على كل ما يمت للدين وتعاليمه الإلهية بصلة. وسنقف عند 3 من أبرز رواد هذا الاتجاه، هم: فولتير وديدرو وهولباخ.

فولتير

يعد فرانسوا ماري آرويه (1694-1778م) -الشهير باسمه المستعار "فولتير" الشاعر والكاتب المسرحي والفيلسوف الفرنسي- أحد أبرز رواد التنوير الأوروبيين المطالبين بالإصلاح الاجتماعي وحرية العقيدة، وانتقد منهج ديكارت الفلسفي القائم على الشك، وأيد بشدة أفكار العالم والفيلسوف الإنجليزي إسحق نيوتن الداعمة للمنهج العلمي التجريبي. وهو صاحب شعار "لنسحق العار" الذي أطلقه ضد التعصب الديني على مستوى أوروبا. ورغم جرأة فولتير في انتقاد الكنيسة والتعصب الديني، وتأثيره في تصعيد الدعوات المتمردة على الدين والكنيسة، فإنه كان حريصا على ألا يصنف ملحدا أو معاديا للدين والكنيسة، وكان يردد أنه لا يحارب الدين والإيمان وإنما يحارب الخرافات والتطرف وسلطة الكنيسة القمعية.

كان فولتير يؤمن بوجود الخالق، ولكنه يؤمن بالعقل والطبيعة، ويرى أن النصوص الدينية مرجعية قانونية وأخلاقية عفا عليها الزمن، وهي من صنع الإنسان، وليست هبة إلهية. وبمثل هذه المواقف كان أحد الرواد الذين أذكت أفكارهم الثورتين الفرنسية والأميركية.

بذل فولتير جهدا كبيرا لفهم طبيعة الوجود البشري، وفهم الأخلاق في كونٍ تحكمه مبادئ عقلانية وقوانين غير شخصية، وتبنى موقفا وسطا بين الحتمية الصارمة للماديين العقلانيين، والروحانية المتعالية لدى اللاهوتيين المسيحيين؛ فالبشر بالنسبة له ليسوا آلات حتمية للمادة والحركة، وبالتالي توجد الإرادة الحرة، لكن البشر أيضا كائنات طبيعية تحكمها قوانين طبيعية لا هوادة فيها، ورأيه أن الدين يعد ضامنا ضروريا للنظام الاجتماعي.

واعتمدت الفلسفة الأخلاقية لدى فولتير على مذهب المتعة، والجمع بين الحرية والمتعة، لتعظيم المتعة وتقليل الألم؛ وانعكس ذلك في التعبيرات المشتملة على الإثارة الجنسية والتلميح الجنسي في بعض أشعاره. وكان احتفاؤه بالحرية الأخلاقية من خلال الحرية الجنسية، حتى أصبح مذهب المتعة لدى فولتير سمة مركزية لهويته الفلسفية، وكتاباته، وسلوكه المتحرر، مما جعل المحافظين يتهمونه بالعمل على تقويض النظام الاجتماعي.

وجعل هذا فولتير رائدا في الأخلاق المعتمدة على المتعة الشخصية، والجسدية منها بشكل خاص، مستمرا في هجومه على المطالب القمعية، المعادية للإنسان التي أوجدها الزهد المسيحي التقليدي، والعزوبة الكهنوتية، وقواعدها الأخلاقية لضبط الرغبة الجنسية، ونكران الذات الجسدية. ويبدو أن سلوك فولتير المتناقض بين هجومه الحاد على الدين والكنيسة مع حرصه على تأكيد إيمانه يرجع إلى خوفه من التعرض للاعتقال والعقوبة من السلطات أو القتل على أيدي المتدينين المتعصبين، وهو ما لم يفعله غيره من فلاسفة جيله من أمثال ديدرو وهولباخ.

دنيس ديدرو

ربما كان يعد الفيلسوف الفرنسي ديدرو (1713-1784م) ثاني أكبر رواد الفلسفة في عصر التنوير في فرنسا بعد فولتير، بل ربما كان الأكثر أهمية وتأثيرا في تأسيس الاتجاه الانقلابي على الدين ومكانته في الدولة والمجتمع، إذ مر بمرحلة الالتزام الديني، وكان المشرف والمشارك في إعداد أول موسوعة للفنون والعلوم والحرف الناشئة التي توثق لفلاسفة العصر وإسهاماتهم الفكرية والعلمية الناقدة للدين والمعارضة لسلطة الكنيسة والمشككة في معجزات المسيح عليه السلام؛ مما أثار غضب السلطات الحكومية والدينية في فرنسا التي قررت حظرها.

درس ديدرو الفلسفة في كلية اليسوعيين، وعمل فترة وجيزة في الكنيسة، قبل أن يدرس القانون ويقرر أن يصبح كاتبا في بداية العشرينيات من العمر، مما أغضب والده ودفعه ليتبرأ من ابنه، الأمر الذي كان له شديد الأثر في تكوين ردة فعل حادة لدى ديدرو، دفعته بشدة إلى الإلحاد.

أثرت كتابات ديدرو على كثير من الفلاسفة من أمثال "هيجيل" و"ماركس"، التي انتقد فيها نظام العبيد الإمبراطوري الأوروبي الذي يضطهد الأفارقة، ودعا إلى الديمقراطية وتوزيع السلطة من أعلى إلى أسفل، وإلغاء عقوبة الإعدام، ودافع عن لامركزية السلطة السياسية

توالت كتابات ديدرو الإلحادية الصريحة الحادة المعادية للدين والمؤسسة الدينية؛ مما دفع السلطات الفرنسية إلى اعتقاله 3 أشهر عام 1749م، حيث كان يرى أنه يجب حذف كل اعتقاد غيبي أيا كانت الحجج التي يستند إليها، أو الهيبة الفوقية التي يرتكز عليها، فهذه هي الوسيلة لتحرير الإنسان من الخرافات والعبودية، وفتح أبواب السعادة أمامه على مصراعيها. وكان يقول: لو قطعنا 20 رأسا للتعصب الديني، فسوف تنبت له رؤوس جديدة، ولذلك يجب حسم الأمر معه كليا.

لم يكتب ديدرو عملا خاصا بالأخلاق، رغم رغبته في القيام بذلك، ويعود هذا الإحجام إلى خشيته من أن يفشل في كتابة عمل أخلاقي، فيصبح مدافعا عن الشر، خائنا للفضيلة، مشجعا على الرذيلة. ومع ذلك، أيد ديدرو بشدة مذهب المتعة في الأخلاق، وتأثر بأفكار "مونتين" و"لوك" حول الأخلاق، وأن القواعد الأخلاقية ليست فطرية وإنما مكتسبة، مشيرا إلى إحدى قبائل الأمازون التي ترى أن أحد أشكال الفضيلة العالية لديهم أن يأكل المرء أعداءه، ولذا فهم يأكلون لحوم البشر من دون ندم.

ويرى ديدرو أن من عرف نفسه جيدا يكون قد تقدم في معرفة الآخرين، إذ لا توجد فضيلة غريبة عن الأشرار، ولا توجد رذيلة غريبة عن الأخيار، ويرى أن فعل الخير أو الشر مرتبط بالتكوين الفسيولوجي للإنسان، وأن الإنسان لا يتصرف وفقا للمبادئ العليا البحتة أو غير المادية، ولكن من خلال الدوافع والتأثيرات والرغبات والغرائز وما إلى ذلك.

اعتقد ديدرو أن الفرد الفاضل هو الشخص الذي استسلم للعواطف الطبيعية الكامنة فيه، فتدفعه نحو الصداقة الحميمة والحب الأبوي، وأن صاحب الروح الشريرة يكون متمردا عنيدا ومتعجرفا، يطارد الرغبة الأنانية والإشباع الذاتي ضد ما هو طبيعي وحقيقي.

تأثر ديدرو بخطابات "جان جاك روسو" التي أنتجها في الخمسينيات من القرن 18، وطور نموذجا مثاليا للفضيلة الطبيعية والمساواة المجتمعية، التي وجدها أكثر تطورا في الأشخاص البسطاء والريفيين الذين عاشوا بتواضع وعلى مقربة فيما بينهم. كما أبدى اهتمامه بالقوة المجتمعية للتجارة، لتوحيد الناس في أنظمة حكم فاضلة ومزدهرة، وانتقد الجشع التجاري بوصفه سببا للعنف الاجتماعي والظلم السياسي. ويعتقد ديدرو بمركزية الإنسان، وأن وجود الإنسان هو الذي يعطي الأهمية لوجود الكائنات الأخرى.

أثرت كتابات ديدرو على كثير من الفلاسفة من أمثال "هيجيل" و"ماركس"، التي انتقد فيها نظام العبيد الإمبراطوري الأوروبي الذي يضطهد الأفارقة، ودعا إلى الديمقراطية وتوزيع السلطة من أعلى إلى أسفل، وإلغاء عقوبة الإعدام، ودافع عن لامركزية السلطة السياسية، ورفض الأفكار التي تبناها البعض حول العرق والعبودية، والتي تحدثت عن أن الأعراق متميزة بيولوجيا وحضاريا، قائلا إن الجينات للإنسانية واحدة، وإن الاختلاف هو في الدرجة وليس النوع.

(يتبع: هولباخ واستئصال الدين جملة وتفصيلاً)

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.