شعار قسم مدونات

مونديال 2022 في قطر.. استحضار الصراعات الثقافية

يدفع الفيفا مبلغا ماليا نظير كل يوم مشاركة للاعبين في كأس العالم
كأس العالم وخلفه ملعب لوسيل (مواقع التواصل)

لم يكن لي منذ طفولتي المبكرة حتى كهولتي الحالية اهتمام أو اكتراث بالرياضة عموما، وبمباريات كرة القدم خصوصا، وأتذكر أنني حين كنت أقرأ الجريدة الورقية أتجاوز صفحة (أو صفحات) الأخبار الرياضية وأتجاهلها تماما، وهو حالي ذاته مع أخبار هذا العالم الكروي في التلفزيون ومواقع الإنترنت، وما تجمع لدي حولها من معلومات كان بمحض كثافة وتكرار الأخبار والأسماء.

طرفة ومتابعة آخر مباراة أحيانا

ومن طرائف عدم اللامبالاة وانعدام الاكتراث لدي؛ أن ابني الأوسط (عمره 10 أعوام) انتسب لأكاديمية تدرب على فنون كرة القدم، وهو بشهادة مدربه "له مستقبل في لعب الكرة"، فقررت إدارة الأكاديمية دعوة أولياء الأمور إلى يوم مفتوح ينقسم فيه أولئك الآباء إلى فريقين ويلعبون مباراة كيفما اتفق؛ وتشجيعا للولد ورغبة في الاستطلاع وكسر الروتين، ذهبت وكنت في فريق منافس لفريق آخر، ولم أحصل إلا تعبا وركضا، حيث لم تلمس قدمي الكرة مرة، ولم يواسني في الخجل والحرج سوى قلة من أمثالي من آباء طلبة الأكاديمية.

غير أن هذا لا يعني أنني لم أتابع بعض المباريات، خاصة النهائية في تصفيات كأس العالم في بعض السنوات، ولا زلت أذكر فوز فريق الأرجنتين ونجمه المشهور آنذاك "دييغو مارادونا" على الفريق الألماني، وأتذكر أن الرقم الذي كان على "التيشيرت" (القميص) الذي لبسه مارادونا هو (10)، وكان عمري وقتها (1986) 12 عاما.

وفي مرحلة الشباب، تابعت مع عائلتي وعائلات أخرى كثيرة مباراة إيران مع الولايات المتحدة، وبالطبع كنا نشجع الفريق الإيراني، وأتذكر اسم وأداء اللاعب "عزيزي".

قطر تستضيف كأس العالم 2022

منذ الإعلان عن استضافة دولة قطر مباريات كأس العالم قبل نحو عقد من الزمان وهناك من يشكك في أنها ستعقد بالدوحة، والمؤسف أن التشكيك جاء بعضه من عرب ليس من منطلق إيمانهم بوجود انحيازات عنصرية ذات طابع سياسي أو أيديولوجي عند فريق من القائمين على تلك المباريات؛ بل لأنهم يرون أن العرب عموما -ومنهم القطريون- ليست لديهم خبرة ولا إمكانية كي يستضيفوا هذه الفعالية العالمية البارزة!

ولكن مرت السنون وحان الموعد، وسقطت كل محاولات حرمان قطر من استضافة تلك المباريات، عبر الاعتراضات الرسمية بقنوات مختلفة، أو عبر التشويش الإعلامي، وجاء اليوم الموعود الذي أعدت له دولة قطر -وبتوجيهات من سمو الأمير الوالد "الشيخ حمد" وسمو الأمير الشيخ تميم بن حمد آل ثاني- كل ما يلزم من تجهيزات كي يخرج المشهد متقنا مبهرا تماما، وكي يخرج الكلام المنصف المعبر عن الواقع (فعلتها قطر.. شكرا قطر). ولا يسعني هنا سوى استعارة ما جاء في تقرير الإعلامي "فوزي بشرى" على شاشة الجزيرة، فكلماته وعباراته والمقطع المرافق لها يقول كل شيء عن نجاح قطر في تنظيم المونديال:

إذا أضفنا إلى ما سبق أن قطر هي أول دولة عربية، وأول دولة مسلمة تقام هذه التظاهرة الكروية العالمية على أرضها منذ انطلاقتها في 1930 (نظمت في الأوروغواي) فإننا نستطيع القول إن العربي والمسلم ليس قاصرا ولا عاجزا، ويستطيع أن يفعل ما ظن بعضهم -أو روج بعض آخر- أنه لا يستطيع فعله، بل يفعله وبإتقان غير مسبوق.

وهذا أعطى مباريات كأس العالم 2022 طعما آخر وزاوية نظر أخرى، ولم يقتصر الأمر على مباريات وفريق فائز وآخر خاسر، بل انطوى على تكثيف وتجميع صراعات ثقافية كما سنأتي على ذكره في محور آخر من هذه المقالة.

قضية فلسطين ووضع إسرائيل

في مونديال قطر 2022 تجلى بوضوح حضور فلسطين وعلمها بألوانه الأربعة (المثلث الأحمر والمستطيلات الأسود والأبيض والأخضر) في كل يوم، بل في كل ساعة من ساعات هذه الأيام في قطر، وسيرى ذلك من يتابع ما يجري في قطر في شتى بقاع العالم، وبالتأكيد غياب السردية الإسرائيلية، والعلم الإسرائيلي بطبيعة الحال.

وفي الحوار الصاخب بين صحفي إسرائيلي وعرب من لبنان بأنه لا يوجد شيء اسمه إسرائيل بل هناك فلسطين، رد الصحفي الرد الروتيني المعتاد المتوقع بأن هناك إسرائيل وهي أمر واقع!

وهنا تظهر من جديد حالة ووضع إسرائيل في مناسبة رياضية كروية، لا في محفل دولي أو ميدان معركة عسكرية؛ فلا توجد دولة مهما اختلفنا حول سياساتها ومواقفها محل خلاف أو جدل وجودها من منطلق (أصل وأحقية الوجود) سوى إسرائيل.

وظهر أنه حتى جماهير من غير العرب والمسلمين (كالجمهور البرازيلي المحتفل بفوزه على صربيا مثلا) يحتفل بالغناء لفلسطين.

وتبدى حجم النبذ وتجنب التعاطي مع الإسرائيلي -ولو تسلح بمعسول الكلام- من قبل العرب والمسلمين وآخرين يتعاطفون مع الفلسطينيين، حتى لو كان الإسرائيلي يحاول التواصل معهم من منطلق مهنة الصحافة أو التبضع أو غير ذ لك.

ضرورات الأنظمة وخيارات الشعوب

قد يقال هنا إن الأساس والصواب هو ألا تطأ قدم أي إسرائيلي أرضا عربية ولو تحت ستار الإعلام أو السياحة أو حضور مباريات؛ نعم، وهنا أقول: إذا كانت للأنظمة الرسمية ضرورات أو إكراهات أو التعامل وفق حسابات معينة تضطرها إلى مخالفة المزاج الشعبي العام، فإنه يتوجب ألا تصادر خيارات الشعوب وتحصر في بوتقة حسابات النظم السياسية.

وبالنسبة لقطر، فإنه وبكل تأكيد لن يتعرض المواطن الذي رفض الحديث مع صحفي إسرائيلي، أو ذاك الذي رفض التعاطي تجاريا معهم، أو ذاك الذي أظهر لهم نفوره، وغير ذلك من نماذج النبذ الحامل رسائل واضحة؛ لن يتعرض هؤلاء إلى مساءلة أو ملاحقات أمنية أو تلفيق تهم جنائية انتقاما مما أبدوا من مواقف، وسيواصلون حياتهم الطبيعية وهم في أمن من مؤسسات دولتهم الأمنية والمدنية.

وهذا يرسل رسالة احتجاج عملية إلى دول اختارت مسار العلاقات (الطبيعية) مع الكيان العبري، ولكنها قمعت بعصا الأمن الغليظة كل مظهر احتجاجي على خيارها، وسلطت إعلامها الرسمي أو لجانها الإلكترونية كي يشتموا الفلسطيني ويتهموه ببيع أرضه، وفي الوقت ذاته تعمد الإشادة بالإسرائيلي وتمجيده تمجيدا لم يحظ به شقيق أو ولي حميم!

رسالة جديدة من قطر: إنه يمكنك اختيار طرق جديدة في تعاملك مع أقدس وأعدل قضية، أي قضية فلسطين.

وإسرائيل لم تبتعد عن الدول أو الكيانات التي شنت عبر إعلامها حملة تشويه ممنهجة ضد قطر بسبب استضافة المونديال؛ ومن ذلك على سبيل المثال نشر كاريكاتير بهذا الشأن في صحيفة "إسرائيل اليوم"؛ لسان حال حزب الليكود وبنيامين نتنياهو.

فرح بفوز السعودية على الأرجنتين

حالة من الفرح والابتهاج سبقها تشجيع بمشاعر صادقة، عند فوز منتخب المملكة العربية السعودية على منتخب الأرجنتين، وعلى رأسه اللاعب المعروف "ليونيل ميسي"، فقد أثبت فريق المملكة أنه يستطيع تحطيم أسطورة ميسي. وللأمر بعد ثقافي أيضا؛ فكثير من الشباب والفتية العرب جعلوا من ميسي ملهما و"أيقونة" ومنحوه عشقا كبيرا؛ بتعليق صوره، ولبس قمصان عليها صورته، أو جعل صورته معرفا "للبروفايلات" الخاصة بهم في الإنترنت.

ومنتخب السعودية العربي المسلم قدم لهم بديلا أو على الأقل أزال من مخيالهم تلك الصورة عن لاعب محترف يمتلك الفوز دوما خاصة على فريق عربي.

الثقافة والهوية ورفض المعيارية الغربية

رأيت مقطعا يظهر منع مشجعين بريطانيين من دخول الملعب بأزياء الحروب الصليبية، وللوهلة الأولى قد تظن أنك تشاهد كواليس مسلسل "قيامة أرطغرل" وليس أفرادا يفترض أنهم يدخلون لتشجيع فريق كرة قدم وليس في حملة عسكرية تستحضر حروبا مضت على نهايتها قرون طويلة.

المشهد وغيره من المظاهر أبرز مسألة الهوية والصراعات الثقافية التي أصرت دول غربية أوروبية على جلبها إلى ساحات المونديال، وتبدت المشكلة في أن الغرب يريد أن يجعل من قيمه وخياراته وتعريفه لمفهوم "جنس الإنسان" وما ارتضاه من ممارسات ومسلكيات بمثابة قيمة معيارية، ليس على العالم إلا تقليدها وقبولها.

مع أن الغرب منذ تجاوز المرجعية الكنسية ثقيلة وبطيئة التغير، فإنه تبنى المسلك العلماني سائل التغير وسريع التحول؛ فما كان ممنوعا بنص قانوني في دولة أوروبية قبل عقود صار الآن معتادا بل شائعا.

إن أكثر ما روج له الغرب والمدافعون عن قيمه في مجتمعاتنا العربية هو احترام خيارات الإنسان، والالتزام بالأنظمة والقوانين واللوائح، ولكن ما ظهر حتى الآن في غير موقف خلال المونديال يدل على حالة استعلاء وغطرسة، تنم على أن مفهومهم للالتزام باللوائح والقوانين يخضع لمزاجهم وما رأوه مناسبا في مجتمعاتهم وكياناتهم.

صحيح أن هناك مدونين وأكاديميين غربيين رفضوا علنا هذه الممارسات الاستفزازية، ولكن طبيعة وحجم الذين يريدون فرض القيم الغربية -أكرر أنها متغيرة بسرعة- أكثر حجما وأوسع نفوذا؛ فمثلا حين نرى وزيرة داخلية دولة بحجم ألمانيا (نانسي فيزر) تضع شارة "حب واحد" على ذراعها وقيام فريق بلادها بحركة مستفزة احتجاجا على قرار رئاسة الفيفا بمنعهم من ارتداء الشارة ذاتها، مع الحملة الشعواء التي شنتها ألمانيا على قطر واعتراضها على تنظيم المونديال هناك، بسبب منع قطر مثل هذه المظاهر؛ يدل على أن الصراع الثقافي وصراع الهوية يتضحان بصورة لا تحتمل تأويلا، وأصوات المعترضين الغربيين ذهبت أدراج الرياح.

مجموعة رسائل

فعاليات مونديال 2022 في قطر حملت رسالة واضحة إلى الغرب، بأنه إذا كانت نسبتكم ثمن أو سبع أو سدس سكان العالم كحد أقصى، فهذا لا يعطيكم الحق في فرض وتعميم قيمكم الثقافية وأنماط حياتكم وسلوكياتكم الاجتماعية على بقية سكان الكوكب.

وأيضا أرسل رسائل ضمنية إلى ثلة من العلمانيين والليبراليين العرب الذين دأبوا على جعل الغرب معيار النجاح حصرا، بأن العرب يمكن أن ينجحوا ويبدعوا ويتفوقوا، وأن ادعاءاتكم بأن القوانين واللوائح شيء مقدس لا يتجاوزه الغرب حكومات ومجتمعات، انكشف زيفه، وأن اتهامنا بأننا نعيش في الماضي يستوجب منكم مراجعة مشهد مشجعين (من غيرنا) يرتدون لباس حملات عدوانية على المشرق العربي قبل ألف سنة.

نجحت قطر في تنظيم المونديال نجاحا غير مسبوق، ونجحت السعودية في تحطيم أسطورة ميسي، وسقطت سردية إسرائيل مقابل السردية الفلسطينية، وسقط الغرب في اختبار ادعاء احترام القوانين والأنظمة وخيارات الأفراد والمجتمعات.. كل هذا وغيره تجمع وحضر في فعاليات مباريات كأس العالم قطر 2022.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.