شعار قسم مدونات

لن ينسانا الله

الكاتب: من وثق علاقته بالله سبحانه وتعالى وجعله الأول دائما في كل شيء يحمده في الأفراح، ويدعوه عند الصعوبات، ويلجأ إليه في الملمات (مواقع التواصل الاجتماعي)

ترنمت ذات مرة بأغنية "لن ينسانا الله" -التي طغى صداها في العالم العربي في وقت اشتداد إغلاق أزمة كورونا لا أعادها الله علينا- فقال لي أحد الاصدقاء: "أنا أكره هذه الأغنية لأن فيها تألي على الله سبحانه وتعالى، فلسنا مثل الصحابي رضي الله عنه الذي لو أقسم على الله لأبره، فنحن لم نقدم أي شيء بين يدي الله سبحانه وتعالى".

وكلامه جعلني أتذكر أيضا نقد صديقي الآخر للركض المتسارع خلف ما يسميها بالإيجابية غير المبنية على أساس نفسي حقيقي، فيغرقون رواد تنمية الذات رؤوس الناس بكلمات مثل: "أنت تستطيع، وأنت تستحق، أخرج المارد من داخلك وحقق المستحيل"، وغيرها من العبارات التي تشحن الإنسان بالطاقة التي تجعله يحلق في الآفاق، وحينما يستيقظ من غفوته يصطدم بواقع مليء بالتحديات التي إذا لم يكن مجهز علميا ونفسيا لمواجهتها قد يسقط سقوطا لا تحمد عقباه.

ونقطة الاختلاف تكمن في كيفية زرع التفاؤل والأمل في القلوب بطريقة تجعلنا لا نعبر الجسر قبل الوصول إليه، فالثقة في الله سبحانه وتعالى مهمة جدا في كونها تعزز الإيمان بقدراتنا على القيام بشيء في هذه الحياة.

وفي الحقيقة إن الله سبحانه وتعالى طالبنا بتمام الثقة في كرمه وعطائه، كما قال جل وعلا في الحديث القدسي "أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة"، رواه البخاري.

وفي الحديث الآخر يقول سبحانه وتعالى "يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة"، رواه الترمذي.

إن نهجنا مع الله سبحانه وتعالى نهج له مقاييس مختلفة تجعلنا ننظر إلى العلاقة به سبحانه وتعالى نظرة تتجسد في مدى حبنا له ذلك الحب الذي وضحه الله سبحانه وتعالى في سورة المائدة: "يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه" "54"

وقال سبحانه وتعالى في سورة البقرة "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون" (186)، وقال سبحانه وتعالى في سورة النمل "أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض" (62)، ليؤكد لنا الله سبحانه وتعالى أننا سواء عنده في حسن الظن وفي الالتجاء له بالدعاء والابتهال بين يديه، ذلك الخشوع والخضوع الذي يدعونا له سبحانه وتعالى دائما وأبدا بقوله في سورة الذاريات "ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين" (50).

إن نهجنا مع الله سبحانه وتعالى نهج له مقاييس مختلفة تجعلنا ننظر الى العلاقة به سبحانه وتعالى نظرة تتجسد في مدى حبنا له، ذلك الحب الذي وضحه الله سبحانه وتعالى في سورة المائدة: "يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه" (54)، تلك المحبة التي تجعلنا نسأله الإعانة في كل شيء، ونذهب اليه بكل ما فينا من عيوب ونواقص نرجو ثوابه، ونطمع فيما عنده واقفين خاضعين تحت رحمة أرحم الراحمين الذي لا ينسى عباده كما فعل أحد السالكين حينما جاع أبناؤه في ليلة طويلة نظر إلى السماء وقال مخاطبا ربه: "أتتركني، وقد آليت حلفا بأنك لن تضيع ما خلقت".

إنها إذن متعة الذهاب إلى الله سبحانه وتعالى بلا خطوة، ودون أي حواجز بدعاوى واهمة، كما جاء في سورة الأنعام "إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين" (79).

دعوة الرحمة الربانية التي يراعي فيها الله سبحانه وتعالى أحوال عباده المبنية على ثنائية الخطأ والصواب، والحسنة والسيئة، والخير والشر، التي يمحو طرفها الآخر في دوائر ينسجم فيها الإنسان مع جميع الصراعات التي تدور في داخله بين الأنفس الأمارة بالخير والشر

تلك الخطوات التي يتجلى فيها جمال الموعد مع الله فاطر السماوات والأرض الذي يتحقق في قوله تعالى في سورة الحديد "وهو معكم أين ما كنتم" (4)، ويتبين في قوله سبحانه وتعالى في سورة ق "ونحن أقرب إليه من حبل الوريد" (16)، وغيرها من الآيات الكثيرة التي يتجلى فيها قرب الله سبحانه وتعالى منا، أولياء كنا أم أشقياء، طائعين كنا أم عاصين، مذنبين أم محسنين، نفر إليه جل وعلا في جميع أحوالنا الملتزمة والمقصرة، فالله سبحانه وتعالى قال لموسى وهارون عليهما الصلاة والسلام -اللذين أرسلهما إلى فرعون- في سورة طه "فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى" (44).

إنها دعوة الرحمة الربانية التي يراعي فيها الله سبحانه وتعالى أحوال عباده المبنية على ثنائية الخطأ والصواب، والحسنة والسيئة، والخير والشر، والتي يمحو طرفها الآخر في دوائر ينسجم فيها الإنسان مع جميع الصراعات التي تدور في داخله بين الأنفس الأمارة بالخير والشر، وبين وهم لذة الذنوب وسياط الضمير، وفي جميع تلك الدوائر سيبقى دائما يجدد العهد الأول والدائم مع ربه سبحانه وتعالى الذي قال في سورة النبأ "فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا" (39).

فمن وثق علاقته بالله سبحانه وتعالى وجعله الأول دائما في كل شيء يحمده في الرخاء، ويدعوه عند الصعوبات، ويلجأ إليه في الملمات، ويعبده في جميع الأوقات، عاملا بأمر الله سبحانه وتعالى له في سورة الكهف "واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا" (28).

وحينها لن يخشى أحد من هشاشته النفسية، ولن يصبح ريشة في درب الريح، لأنه سيعرف أن ما أصابه فيه الخير حتى ولو كان في ظاهره الشر، كما قال سبحانه وتعالى في سورة البقرة "وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم" (216).

وسيعرف بأن الأحداث التي تحصل بين الفرح والحزن هي قضاء وقدر عليه الإيمان بها كما قال سبحانه وتعالى في سورة آل عمران "الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل" (173).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.