شعار قسم مدونات

حبات الزيتون المتلألئة

Blogs- olive

صورة شجر الزيتون الأول الذي زرعه جدي بيده في المرة الأخيرة بعد كل مرة يقوم بها الاحتلال الصهيوني بتجريفه منذ احتلاله لأرضنا ما زالت عالقة أمامي، موسم الفرح والحياة والبهجة "قطف الزيتون" أظن أن الأبهى جمالاً هو في بلادي فلسطين وفقط.

      

جدتي التي كانت ترافق جدي وأبناؤه وصغارهم، كانت على شغفٍ لانتظار قطرات المطر الأولى التي تهطل في أيلول- تشرين الأول من كل عام- لتمطر على قلوبهم الفرح "حان وقت قطف الزيتون" وآن أوان ولادة زيتون هذا العام. يبدأ كل واحدٍ منهم بحجز شجرته التي يحبها من أجل أن يتسابق مع أشقائه في قطفها، وأنا أريد أن أقطف مثلهم، أقف أبحث عن أقرب غصنٍ ممتلئ بحبات الزيتون الأخضر، ليناديني جدي "هنا أغصان الزيتون ليست عالية مخصصة لكم أنتم الأطفال لتمرحوا بجانبها".

     

كنا نعد الحبات بين أيدينا ونفرح أننا استطعنا أن ننهي قطف غُصنٍ، لكن جدي كان يتركنا ننتهي ونذهب لنلهو في أرضه بين الورود ليعود للحبات التي تركناها معلقةً تناديه وتشتاق أن تلامس يديه. كنتُ أظن أن حبات الزيتون التي نقطفها هي موسمٌ وينتهي، لكن العلاقة بين الزيتون وغارسه تبقى أبدية، طوال العام من عنايةٍ ورعايةٍ وسقاية وتقليم حتى تنضج حبات الزيتون ويقطفها ليعيد الكرة مرةً أخرى في كل عام. سر الحب بين الزيتون وزارعه هو سر الوجود والبقاء والقدسية التي يتمتع بها على أرضنا عن غيره من بلادٍ أخرى.

      

كنت أظن يا جدي أن الأشجار شاخت، ولكنني أنظر لصورٍ مليئة بأشجار زيتون معمر، أشجار تحيا بدماء كل أبناء عائلتي وشهداء فلسطين الذين ارتقوا لأجل أن نعيش بحرية
كنت أظن يا جدي أن الأشجار شاخت، ولكنني أنظر لصورٍ مليئة بأشجار زيتون معمر، أشجار تحيا بدماء كل أبناء عائلتي وشهداء فلسطين الذين ارتقوا لأجل أن نعيش بحرية
    

أما عن سنوات العجاف التي عاشها جدي تكررت كثيراً بعد كلِ عدوانٍ على غزة كان يجد أرضه قاحلة بفعل جرافات الاحتلال الحربية الإسرائيلية حيث كانت تقوم بتجريفها وتدمر كل شجرٍ كان ينبض حياة فيها. تلك الغطرسة الصهيونية لم تثنِ عشاق الأرض من العناية بأرضهم مراراً وتكراراً فكلما كبروا أكثر تمسكوا بحبها أكثر، فلا يسمحوا لاحتلالٍ متغطرسٍ بوحشيته أن يسلبها أو أن يدمرها. في كل موسم قطف زيتونٍ قبل عدة سنوات كنتُ أرافق بها جدي كان يقف شارد الذهن وعينه باتجاه أرضنا المسلوبة ويده ممتلأ بحبات الزيتون التي تتلألأ بين أصابعه، لأمسك بيده وأسأله عن سبب صمته، ليخبرني بشوقه لأرضنا الجميلة التي يضاهي جمالها كل أرض فهي سُلبت منا إبان نكبة 1948.

      

كنت أظنها يا جدي قد شاخت، ولكنني أنظر لصورٍ مليئة بأشجار زيتون معمر، تشبه ما رسمته في مخيلتي، كل الأشجار التي تركتها ستكون جميلة جداً حين اللقاء الأول، أظنها تحيا الآن بدماء كل أبناء عائلتي وشهداء فلسطين الذين ارتقوا لأجل أن نعيش بحرية، وتعود تلك الأرض لأصحابها الأصليين. ما زلنا نرى في شجرة الزيتون الوطن، ونتذوق في زيته طعم الحرية المسلوبة، نأكله ونحن نعتصر غصةً كما اعتصر بألمٍ على وطنٍ لم يذق طعم الحرية منذُ سبعين عاماً، فحبات الزيتون التي نقطفها اليومَ من أرضنا تشتاقُ للحبات المعلقة التي ما زالت مسلوبة بيد الاحتلال.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.