في لوحات.. كيف تغيّرت معايير الجمال الأنثوي على مر القرون؟

لوحة بوجيرو "عبء لذيذ" (Pleasant Pardon) مراهقة تحمل أختها الصغرى (مواقع التواصل)

سئل الفيلسوف اليوناني أرسطو ذات مرة عن سبب هوس الناس بالجمال، فأجاب "لا يسأل هذا السؤال إلا رجل أعمى"، في حين رأى أبو الفلاسفة سقراط أن الجمال "طاغية قصير الأجل"، أما الإغريقي ثاوفرسطس فقد عبر عنه قائلًا إن "الجمال مخادع لكنه صامت".

هؤلاء الفلاسفة وغيرهم تناولوا جمال النساء الخارجي بتلك النبرة التهكمية على الرغم من أن أدوات التجميل ومستحضراته في ذلك العصر كانت محدودة وبسيطة، إلا أن محاولات تجمُّل النساء ذاتها كانت محط سخرية حتى بلغ الأمر بالشاعر الروماني جوفينال أن سخر من وجوه النساء لأنها "مغطاة بالورنيش والدهانات"؛ كل هذا النقد اللاذع كان قبل مستحضرات التجميل الحديثة وعمليات الشد والنحت وغيرها.

وعلى اختلاف الثقافات وتعددها، ظلت هناك سمات مشتركة حول ماهية الجمال الأنثوي متوارثة منذ القدم. فحتى مطلع القرن الـ21 كانت معظم الثقافات تتفق أن النساء يتمتعن على المستوى الداخلي بقدرات نفسية وميول فريدة من نوعها بحكم طبيعة جنسهن تجعلهن مناسبات تمامًا للعمل المنزلي ورعاية الأطفال.

وعلى المستوى الخارجي، خضع جمال المظهر لتغييرات متباينة على مر القرون واختلف من ثقافة إلى أخرى؛ فلا نكاد نجد قواعد عالمية متفقا عليها تحدد بوضوح ما هية الجمال. وهناك لوحات متنوعة توضح حجم الاختلاف الكبير الذي كثيرًا ما يصل إلى التناقض في مفهوم الجمال الأنثوي.

"جمال الأشياء موجود في العقل الذي يتأملها"- ديفيد هيوم، فيلسوف أسكتلندي

 

معايير القرن الـ17

رسم الفنان الإيطالي بيترو دا كورتونا في عشرينيات القرن الـ17، في الفترة ما بين 1627 إلى 1629، إحدى أكثر اللوحات تعبيرًا عن معايير الجمال الأنثوي في العصور الوسطى، وفقًا لقاعدة بيانات الفنون والعمارة الأوربية، وهي "سبي نساء السابين" (The Abduction of the Sabine Women).

وقد سبى الرومان نساء السابين -وهي قبيلة إيطالية قديمة عاشت في شمال شرقي روما- بعد أن هزموهم في معركة ثرموبيلاي. وعلى الرغم من أن موضوع اللوحة نفسه أسطوري، من الميثولوجيا الرومانية؛ فإن تمثيل بيترو للنساء خضع تمامًا لمعايير جمال عصره.

فالنساء في اللوحة شأنهن شأن نساء العصور الوسطى، يتمتعن بدرجة من البدانة التي كانت في تلك الفترة أبرز معايير الجمال الأنثوي؛ فبدانة المرأة كانت علامة على خصوبة الجسد الأنثوي وصلاحيته للحمل والرضاعة، على عكس اليوم إذ تعدّ دهون منطقة البطن كرشا يجب شفطة.

ونرى في لوحة بيترو عرضا مسرحيا نابضا بالإيماءات الحية والحركات العنيفة والألوان الثرية وكثافة التفاصيل، وهو الأمر الذي تميزت به لوحات عصر الباروك، فالتركيز على ملحمية المواضيع والتفاصيل والألوان كان أبرز السمات حتى يكاد المشاهد يسمع صرخات نساء السابين تخرج من اللوحة.

لوحة سبي نساء السابين (مواقع التواصل الاجتماعي)

معايير القرن الـ18

كان لدخول أوروبا عصر التنوير أثر بالغ في مناحي الحياة كافة، بما في ذلك تغير موضات الشعر ومستحضرات التجميل، فقد ظهرت سمات معينة للثياب وتسريحة الشعر تدل على الطبقة الاجتماعية للمرأة، وتفاوتت الطبقات بقدر بروز تلك السمات خارجيًا.

لوحة "بورتريه للآنسة دوبلانت" للرسّام الفرنسي فرانسوا أندريه فنسنت (مواقع التواصل)

الأرستقراطيات مثلا كان لا بد لهن من ارتداء شعر مستعار باللون الرمادي، كما ارتداه الرجال أيضًا بحلول نهاية القرن، ونرى في لوحة "بورتريه للآنسة دوبلانت" (Portrait of Mademoiselle Duplant) للرسّام الفرنسي فرانسوا أندريه فنسنت (1746-1814) ظهورا واضحا لتلك المعايير.

تجلس الآنسة دوبلانت أمام البيانو وهي ترتدي شعرها المستعار والفستان المحبوك على الخصر عوضًا عن الأثواب الفضفاضة، كما تظهر أنحف من مثيلاتها في القرنين السابقين. فقد دفعت الثورة الصناعية النساء إلى خسارة الوزن بحكم العمل في المصانع حتى صار فقدان الوزن من معالم الجمال.

كذلك يكشف التركيب الخطي والمرتّب ونعومة الألوان ودقة تناظر الزوايا عن المبادئ الفنية الجديدة، وهي الميل نحو البساطة بعيدًا عن تقاليد عصر الباروك التي ركزت على التفاصيل، إذ أصبح الرسام أكثر تركيزًا على الفكرة من التفاصيل.

معايير القرن الـ19

نرى في لوحات النساء في تلك الفترة ظهورا واضحا لسيادة معايير الرجل الأبيض في الجمال، التي صاحبت الغزو الأوروبي للشرق والحملات الاستعمارية الضخمة. وقدم الرسّام الفرنسي وليام أدولف بوجيرو (1825-1905) وكذلك جون سينغر سارغنت وجون وليام غودوارد الجسد الأنثوي الرخامي كمعيار جديد للجمال.

النساء في لوحات القرن الـ19 أقرب إلى منحوتات من العاج أو الرخام؛ كلهن شديدات البياض يظهرن بمفردهن أحيانًا وأحيانًا أخرى مع العبيد أو الجواري المسبيين من أفريقيا في الحملات الاستعمارية.

وخضع الجمال الجمال في تلك الفترة للسياسات الاستعمارية مثلما خضع جمال النساء من قبل لمقتضيات الثورة الصناعية؛ ونرى في لوحة بوجيرو "عبء لذيذ" (Pleasant Pardon) مراهقة تحمل أختها الصغرى، وتظهر الفتاتان ببشرة شديدة البياض وملامح أوروبية.

معايير القرن الـ20

باندلاع الحربين العالميتين الأولى والثانية وظهور المدارس التشكيلية المتأثرة بنسبية آينشتاين وتنامي الموجات التحررية ضد سيادة الرجل الأبيض، ظهرت معايير جمالية أكثر تركيزًا على جوهر المرأة وحالتها النفسية.

وبالنظر مثلا في لوحة "بورتريه دورا مار" لبابلو بيكاسو، نجد أن الوجه الأنثوي يتحرر من أي معايير جمالية سابقة؛ فقد سعت التكعيبيّة إلى إعادة تعريف الإنسان والأشياء من حوله بعيدًا عن مفاهيم الجمال ومعاييره البرجوازية الرأسمالية الحداثية.

لوحة "بورترية لدرة مار" لبابلو بيكاسو
لوحة "بورتريه دورا مار" لبابلو بيكاسو (مواقع التواصل)

"ما وجه الإنسان؟ ومن يرى هذا الوجه رؤية صحيحة؟ المصور الفوتوغرافي أم المرآة أم الرسام؟ هل علينا أن نرسم ما يبدو على الوجه، أم ملامح الوجه، أم الكامن وراء الوجه؟" -بابلو بيكاسو، من مقال في مجلة التايم 1950.

معايير القرن الـ21

كعادة العلاقة بين الأوضاع السياسية ومعايير الجمال، شهد القرن الـ21 سطوة معايير نيوليبرالية بامتياز، فالنساء سواء كن يرتدين حجاب رأس أو لا، يتم تقييمهن وفقًا لمعايير الرجل الأبيض مرة أخرى، فالعلامات التجارية الآن أداة لتقييم كل شيء.

هذا فضلا عن الشفاة الممتلئة، والجسد النحيل، والرموش الصناعية، وجدائل الشعر المستعار، واللون البرونزي للبشرة الذي تكتسبه نساء الطبقات الثرية بحكم ذهابهن إلى المنتجعات والشواطئ السياحية.

المصدر : مواقع إلكترونية